سوريات في الاغتراب… أحلام خلاص

شكل الاغتراب تاريخياً لأبناء المجتمع قفزة الخلاص الفردية، من هذه الأرض التي لم تعد تقوى على حمل أبنائها. قفزة إلى المجهول حيث يقامر الشخص بحياته ومستقبل أسرته. وبعد أن كانت تلك القفزة حكراً على الرجال طوال عقود طويلة، دفعت الحرب النساء لتقتحمها، حاملةً المزيد من الهموم والمسؤوليات. وتزداد الصعوبة والضغوط على النساء في الاغتراب، عندما تكون المرأة غير عاملة، جراء عدم شعورها بالاستقلال الاقتصادي وحريتها المالية.

تكاد الأزمة السورية تنهي عامها الثالث عشر، مشكلةً مخاضاً جديداً للمرأة السورية، يثقل مستقبلها ويحملها أثماناً باهظة على مختلف الأصعدة. في وقت عرّت أقنعة المجتمع، الذي سلبها الكثير من حقوقها على مدار عقود، لتمسك هي بأطراف أحلامها في مراكب الاغتراب المترنحة، بين لطمات الطموح والمجتمع والأوضاع الاقتصادية.

وقد شكل الاغتراب تاريخياً لأبناء المجتمع قفزة الخلاص الفردية، من هذه الأرض التي لم تعد تقوى على حمل أبنائها. قفزة إلى المجهول حيث يقامر الشخص بحياته ومستقبل أسرته. وبعد أن كانت تلك القفزة حكراً على الرجال طوال عقود طويلة، دفعت الحرب النساء لتقتحمها، حاملةً المزيد من الهموم والمسؤوليات.

من تجاربهن في الاغتراب

ميرا (اسم مستعار لأسباب اجتماعية)، ابنة العقد الرابع، والحاصلة على إجازة بالأدب الإنكليزي. ركضت وراء أحلامها خارج وطنٍ ضاق بها، إلا أنه على ما يبدو لا تجري الأحلام بما تشتهي السوريات. ففي بلاد بيئة العمل المتطلبة فيها لا ترحم، أمسكت ميرا بقشة، لتبدأ العمل ضمن فندق في الإمارات العربية. سارقاً منها نحو تسع ساعات يومياً، وقوفاً في قسم الحجوزات. تدفع ثمنها من صحتها، مقابل أجرٍ بخس لا يؤمن حياةً كريمة لها أو لأسرتها في سوريا.

(ميرا) التي اعتادت العمل لساعات طويلة، لم تستطع بعد تجاوز صعوباتٍ كثيرةً منها استخدام اللغة الإنكليزية، مع تعدد اللهجات الناطقة بها. واختلاف ورديات العمل بين صباحي ومسائي، هذا غير الشعور بالوحدة والحنين لعائلتها ومجتمعها.

تقاسم ميرا ابنة وطنها سمر (اسم مستعار)، البالغة من العمر الثامنة والثلاثين، الاغتراب في الإمارات. مخلّفةً في سوريا أسرتها المكونة من زوج وابنتين، وحلمها الصغير بعدم العجز عن تأمين قوت يومها. راضيةً بأن تدفع ضريبةً مجتمعية غالية، فما زال هناك من ينال من المرأة في حال سفرها خارجاً، وينسج عنها الحكايا.

وترى (سمر)، في حديث مع “أرضية مشتركة”، أن الأوضاع الراهنة لعمل النساء تسحق أحلامها، فالمسؤوليات التي على كاهلها لا تمنحها فرصة لتفكر في ذاتها، إنما الركض وراء دخلٍ يقي أسرتها العوز وتأمين مستقبلهم يبقى الشغل الشاغل لها.

ويبدو أن ضريبة الغربة واحدةٌ وإن تبدلت الوجهة. فتقول (كريستين اسم مستعار) المقيمة مع عائلتها في بريطانيا، لـ”أرضية مشتركة”: “أنا أم لطفلين، أشعر أنني مكبلة بقيود مجتمع غربي؛ أنا لا أشبهه، ما يكرس داخلي الشعور بالغربة والوحدة”. معربةً عن اعتقادها أن “هذا قد يعود لعدم استطاعتي العمل، لأسباب عديدة منها اللغة، وساعات العمل الطويلة، والأجور الزهيدة مقارنةً مع متطلبات الحياة، إضافةً لعدم معرفتي بالبلد”.

وتتابع “لقد تحول الوقت لدي للاعتناء بأطفالي والدراسة، إنه روتين يومي قاتل. ما يحرمني في كثير من الأيام الحد الأدنى من الشعور بخصوصيتي أو ممارسة بعض الطقوس التي كنت أحب”.

الحياة الاجتماعية

قيل في الأمثلة الشعبية “الجنة من دون ناس ما بتنداس”. والإنسان كائن اجتماعي يشعر بذاته عبر تفاعله مع الآخرين، لكن يبدو أن الاغتراب اليوم يحوّل الانسان إلى آلة.

قالت ميرا لـ”أرضية مشتركة”، “لدي علاقات زمالة، وصلت في بعض الأحيان إلى مستوى الصداقة، لكن التواصل محدودٌ لعدم توافر الوقت الكافي بسبب ساعات العمل الطويلة”.

تشارك سمر ميرا توصيفها، مضيفةً أن “الحياة الاجتماعية شبه معدومة، ويقتصر التواصل ضمن العمل، الذي نقضي به غالبية وقتنا، إضافةً إلى اختلاف الجنسيات والثقافات”.

وفي بريطانية لم تشكل (كريستين)، بحسب قولها، أي نوع من التواصل الاجتماعي مع المحيط في الحي أو المنطقة عامةً. مستدركة: “في البداية كانت هناك بعض محاولات التواصل بين السوريات في بريطانيا، لكن مشاكل النساء والثرثرة جعلها تبتعد عنهن كلياً”.

وحول العنصرية في مجتمعات الاغتراب، أعربت كل من ميرا وسمر القاطنتين في الإمارات، عن عدم شعورهما بها وخاصة أنهما من العرب. في حين شعرتا بوجود ميزاتٍ خاصة لهما مقارنةً بالآسيويين المحرومين منها.

أما كريستين فقالت: “يوجد بعض العنصرية تجاه المحجبات الملتزمات في الأماكن العامة. ولأن بريطانيا دولةٌ غالبية سكانها من المسيحيين، نجدها تحترم كل الأديان، لكنها تكرّس دينها بين الأطفال في المدارس، وتعرفهم عليه. وأنا كأم وغير محجبة لم أكن أشعر بالعنصرية تجاهي وتجاه أطفالي، بل أحببت نشرهم لدينهم والثقافات الدينية الأخرى، وأحببت تعليم الأطفال شكر الله”.

العودة

تقول الأديبة غادة السمان “لا تحاول أن تأخذ معك شجرتك إلى الغربة لتحظى بظلها لأن الأشجار لا تهاجر”.

وقد يعيش الكثير طوال عمرهم/ن صراعاً كبيراً حول مسألة الاغتراب والعودة للوطن. وتقول ميرا “أنا لن أعود إلى بلدي إلا إذا عادت معافاة، وهذا ربما يحصل بمعجزة، لذلك لا أفكر بالعودة حالياً، وأرى نفسي مستقرةً في دبي بالرغم من كل شيء”. وكذلك تربط سمر عودتها إلى البلد بتحسن أوضاعها العامة وحل أزمتها، مبينةً أنها لا تفكر بذلك حالياً، إلا أنها تفكر بالهجرة لبلد أجنبي، شرط أن يحقق حياةً أفضل لبناتها.

أما كريستين فهي تفكر بشكل جدّي بالعودة للوطن بعد أن تمتلك به بيتاً مستقلاً، فهي تفضل أن تربي أطفالها ضمن عادات وتقاليد مجتمعها.

دعم المغتربات لعائلاتهن

أصبحت الحياة في سوريا دون وجود لاجئ أو مغترب شبه مستحيلة، فتحقيق الحد الأدنى للمعيشة أصبح يعتمد على تحويلات السوريين في الخارج. والتي تشكل اليوم بظل الأزمة الاقتصادية العالمية أعباءً إضافية. وتقول ميرا “لا أستطيع لوحدي أن أقوم بهذا العبء المادي، ولولا تعاوني مع إخوتي، سنقع في عجز تغطية نفقات أهلي، وهذا يحملني المزيد من الأعباء النفسية والمادية”.

من جهتها، تحدثت سمر، عن سياسة التقشف الشديد التي تتبعها، محاولةً ادخار ما تستطيع، لترسله في نهاية كل شهرٍ لعائلتها.

تزداد الصعوبة والضغوط على النساء في الاغتراب، عندما تكون المرأة غير عاملة، جراء عدم شعورها بالاستقلال الاقتصادي وحريتها المالية. فقد قالت كريستين بهذا الخصوص “أنا لست بعاملة في الغربة، ولا أستطيع أن أقدم لعائلتي المساعدة إلا بشروط. فزوجي من يعمل وهو يساعد أهله، ولكن عند الضرورة أقوم بالاقتراض منه لمساعدة عائلتي، ثم إيفائه في وقتٍ لاحق. هو لا يرفض مساعدتهم ولكن أنا لا أطلب ذلك نهائيا”.

وهكذا تستمر النساء السوريات في اختبار مخاضات جديدة في كل القطاعات ومع كل تطور إيجابي أو سلبي في مجتمعاتهن. سعياً وراء أحلامهن وطموحاتهن ومستقبل لا تتضح معالمه بعد.

لانا دوارة

اقرأ أيضاً:

استقلالية المرأة الاقتصادية.. قضية تغيير