المصالحة الوطنية… تجربة رواندا

بيّنت تجربة رواندا في المصالحة الوطنية المسؤولية الكبيرة التي تتحملها الحكومة في دعم المصالحات الحقيقية. حيث كانت محور الآليات المعتمدة، بالتوازي مع مشاركة مجتمعية فاعلة، تنوعت بين مشاورات محلية ووطنية، ومشاركة إلزامية فردية ومجتمعية، بظل مساحة آمنة وحرة.

لكل مجتمع عاش حالات النزاع والعنف، تجربتَه الخاصة، النابعةَ من سياقه بمختلف عوامله. إلى آليات تحويل النزاع أو وقف العنف، والتي تبنى عليها مآلات المستقبل. وقد تعد رواندا حالةً فريدة ومعقدة، تزامنت فيها الإبادة الجماعية، والحرب الأهلية، والجرائم المروعة ذات الصلة. مثقلةً بقرونٍ من العداء والانقسام بين شعبي الهوتو والتوتسي، إلى أن خلعت عنها لباس الحرب واتجهت إلى بناء أرضيةٍ مشتركة على قاعدة المصالحة الوطنية. 

وبالرغم من أن تجربة رواندا قد لا تكون منجزة بعد، إلّا أنها رغم ذلك أحرزت تقدماً على مسار تحقيق الوحدة والمصالحة في البلاد، وإعادة إحياء الكرامة الإنسانية والقيم الرواندية.

الإرادة السياسية والمصالحة

ورغم أهمية العديد من العوامل الدولية والإقليمية في الصراع الراوندي، إلا أن الرائز الأهم لبدء مسار السلام، وبناء أرضية مشتركة سعياً لسلامٍ مستدام، كان وجود إرادة سياسية عززت سياق البلد وثقافته وعاداته. ولعبت دوراً هاماً في تسهيل وضع آلياتٍ فعالة، بنت أساساً متيناً للمصالحة.

وبيّنت تجربة رواندا المسؤولية الكبيرة التي تتحملها الحكومة في دعم المصالحات الحقيقية. حيث كانت محور الآليات المعتمدة، بالتوازي مع مشاركة مجتمعية فاعلة، تنوعت بين مشاورات محلية ووطنية، ومشاركة إلزامية فردية ومجتمعية، بظل مساحة آمنة وحرة.

ولعب الحوار على المستوى المجتمعي دوراً أساسياً في العملية، واتسمت الآليات بمنظورٍ رجعي وتطلعي. وضمنت مراحل استجابيةً وتدابيراً وقائية. وكما شملت عملياتٍ قضائيةً وغير قضائية بطريقة فريدة (محاكم غاشاشا). ودمجاً للمصالحات المحلية والوطنية، إلى جانب قاطرة حقيقية وهي الإرادة السياسية، الأمر الذي دعم إنجازاتٍ هامة في عملية المصالحة الوطنية.

السياسة والمصالحة الوطنية

وبالرغم من أن النسب الصادرة عن مؤشرات دراسات مقاييس “اللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة” كانت عاليةً جداً ووصلت أكثر من 90%، إلا أن بعض المتابعين يعتقدون أن هذه المؤشرات متعلقة بالمصالحة السياسية وهي الأضعف. والتي قد تعطي مشهداً مستقراً وتعايشاً مجتمعياً سطحياً. فالمصالحة الوطنية تحتاج إلى طريقٍ طويلٍ، يبرز في ديناميات العلاقات، ومستويات الثقة والتكافل والتعاون والاختلاط.

وتبين في ضوء التقرير الذي أعدّه معهد العدالة والمصالحة عام 2005، أنه خلافاً لآليات المصالحة الأخرى في أفريقيا والعالم، نشرت اللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة مفهوم المصالحة الوطنية والسياسات على مستوى المجتمع. 

الحوار والمصالحة

تلك الآليات وضعت نهجاً مبتكراً لإعادة ترسيخ الوحدة بين الروانديين، وتوطيدها من خلال الحوار، والعدالة الانتقالية، والتعليم والتعبئة والتوعية والتدريب. كما أرست أيضاً أسساً متينة من أجل إضفاء الطابع المؤسسي على المصالحة. 

وتجدر الإشارة إلى تصنيف رواندا الذي تغير من دولةٍ منهارة، إلى دولةٍ ومجتمعٍ مدنيٍّ قادرين وفعالين. واستعاد الروانديون الحس الوطني المشترك بالهوية والكرامة، من خلال البرامج التي تعطي الأولوية لإدماج الروانديين وكرامتهم. مثل إلغاء الهويات العرقية المزيفة التي تسبب الانقسامات وتعزيز الانتماء الرواندي.

وعلى الرغم من إنجازات المصالحة في راوندا، إلا أن عملية المصالحة الوطنية فيها واجهت عدداً من التحديات. فما ترسخ من إيديولوجية الإبادة الجماعية، والتنميط العرقي، والفقر والجروح النفسية والجسدية، والتي لم تلتئم بعد، ما زالت سائدة في المجتمع، حيث من الصعب أن تتخلص الذاكر ة الجمعية من أثر العنف.

الحقوق 

وإضافةً إلى ذلك، فإن مسألة إعادة الممتلكات أو التعويض عن تلك التي تم نهبها أو تدميرها أثناء الإبادة الجماعية، تشكل عقبةً رئيسيةً أمام تحقيق الوحدة والمصالحة على مستوى المجتمع المحلي. فعدم تحقيق العدالة والرضى عبر معادلة رابح رابح، لن تسمح للمجتمع بالدفاع عن تلك الحلول. فعلى الرغم من تشديد ضمان سيادة القانون، يجب أن يكون هذا القانون عادلاً، يحقق الرضى المجتمعي.

كما أن عدم تغطية مختلف جوانب القضية، يعتبر واحداً من إشكاليات تحقيق السلام والمصالحة. ففي راوندا طالت الانتقادات الرئيسيةُ انتقائيةَ عملية معالجة ظلم الماضي. إذ اقتصرت على الإبادة الجماعية التي ارتكبتها الحكومة المهزومة، وأهملت جرائم الجبهة الوطنية الرواندية. واستياء المواطنين من عدم قدرة الآليات المعتمدة على معالجة هذه القضايا الهامة يعرقل المصالحة الوطنية. فالمحاسبة لا يجب أن تكون أحادية الجانب، لأن من أهم آليات حل النزاعات تساوي جميع الأطراف أمام القانون، في ظل أجواء من الحريات العامة المصانة والعلنية.

بكل تأكيدٍ كل نزاعٍ فريدٌ من نوعه، وتتطلب معالجته مراعاة سياقه وعوامله المؤثرة، إلى جانب أصحاب المصلحة. لذلك لا تتوفر بشكل عام صيغةٌ واحدة تناسب الجميع، أو طرقاً مختصرةً سهلة لتعزيز المصالحة الوطنية. ولكن يمر الناس بتجارب مشتركة في مختلف الثقافات والسياقات، إذا ارتكبوا عنفاً شديداً في حالات النزاع أو عانوا منه أو كانوا شاهدين عليه. وبغض النظر عن طبيعة الحرب أو الخلفية العرقية أو الدين المعني أو السياسية، تتوفر الأرضية المشتركة في المسعى إلى المصالحة. 

دروس من راوندا

وبناءً على تجربة المصالحة الوطنية في رواندا، فقد تساعد الدروس المترابطة التالية البلدانَ التي شهدت صراعاتٍ عنيفةً واسعة النطاق:

  • تقع مسؤولية تعزيز وتأمين الطرق والمساحات المعززة للمصالحة الوطنية، بربط القول بالفعل دون محاباةٍ أو انحياز. وهذا بدوره يتطلب وجود حكومة ديمقراطية ودمج عسكري، وإرادةً سياسيةً وقدرةَ احتمال الاختلافات والاحتكامَ للوسائل غير العنفية. 
  • لا مصالحة وطنية بقرارٍ منفردٍ من الحكومة أو الجهات الفاعلة وغيرهم. فالمسألة بحاجةٍ إلى تفاعلٍ إيجابيٍّ بين الجهات الحكومية وغير الحكومي. وهذا يجب أن يضمن مساحةَ حوارٍ آمنة تجمع مختلف الفئات.
  • لا يجب أن يتضارب بناء المصالحة مع ديناميات وثقافة وتقاليد وعادات المجتمع، بل يرتكز عليها ويرفع مستوى الوعي. 
  • يتطلب الأمر جهةً مستقلةً تنسق وترصد وتوثق وتتابع العملية على جميع المستويات. 

فريق التحرير

اقرأ المزيد: الوساطة كواحدة من أدوات حل النزاعات