إن استمرار بقاء أي كيان هو ارتباط أفراده بعلاقاتٍ اقتصاديةٍ (زراعية، صناعية، تجارية)، وعلاقاتٍ اجتماعيةٍ وسياسية وغيرها من الروابط. و نجاعة هذا الاستمرار منوطةٌ بما يحققه هذا الكيان من استقرارٍ لازمٍ لنمو وتطور علاقاته البينية، وعلاقاته الخارجية في محيطه القريب والبعيد. وإن وجود قواعد قانونية تتضمن أحكاماً تشمل جميع هذه العلاقات وتحدد طريقة تفاعلها مع بعضها ومع المحيط، وتفاعل كل قطاعٍ في ذاته بعلاقاته الداخلية هي أيضاً شرط لازم لنمو هذه النشاطات وتطورها. إن مجمل القواعد القانونية التي يختارها شعب ما من الشعوب تشكل هويته الثقافية بمقدار ما يلتزم بها، ويحترمها. وبالتالي تطلق طاقاته وفاعليته، لأن القواعد والمبادئ القانونية تحد من تصادم المصالح المتعارضة في المجتمع، وتنظمها مهما كان مصدر أو نوع هذا التعارض. وتخلق مساحاتٍ لتوفير السبل لتحقيق مصالح جميع القوى التي يتشكل منها المجتمع.
دولة القانون
وقد ارتبط نشوء الدولة تاريخياً بوجود القوانين واحترامها، حتى أصبح مصطلح دولة الحق والقانون توصيفاً شديد الأهمية، ويميز تلك الدول التي تحترم إرادة شعوبها، وتلزم نفسها أن تنمو و تزدهر في ظل سيادة القانون. هذه السيادة التي تعبر عن احترام إرادة الشعب، لأنه مصدر التشريع من خلال نوابه في البرلمان، ومصدر السلطة من خلال تفويضه الحكومة بتطبيق القانون، بتنازله عن جزء من حقوقه لصالحها ضمن حدود العقد الاجتماعي والقانون.
إن وجود سلطةٍ تشريعية تسن القوانين لمصلحة المواطنين، وسلطةٍ تنفيذية تعمل على تطبيق هذه القوانين في كافة المجالات، استلزم وجود سلطةٍ قضائية تترجم قواعد القانون وتجعلها قابلة للتنفيذ على أرض الواقع. وتوضح الحدود المرسومة في القوانين وتمنع تجاوزها، أو الاعتداء عليها، وتفسر ما التبس من نصوصها. وتسد الثغرات التي تظهر في البعض منها من خلال تعديلها عبر الأطر الدستورية، ومن خلال سلطة التشريع، مما يجعل القوانين مرنةً وتتجاوب مع التطور الحاصل في أي بلد.
فصل السلطات
إن عمل السلطات الثلاث في الدولة، السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، يقتضي وضوحَ أدوارها، وتحديدَ صلاحياتِها، ونطاق عملها بشكل دقيق، على قاعدة استقلال هذه السلطات عن بعضها البعض. هذا الاستقلال الذي يشوبه دائماً وتاريخياً محاولة السلطة التنفيذية التغول والاعتداء على صلاحيات السلطتين التشريعية والقضائية. ومرد ذلك أن السلطة التنفيذية أي “الحكومة”، تملك القوة الرادعة والمباشرة. فتحاول الطغيان على عمل غيرها من السلطات بحججٍ مختلفة، منها الصالح العام ومعرفتها ببواطن الأمور، كونها على تماس مباشر مع حركة المجتمع. ولكن الحقيقة أنه في كل مرة تمكنت السلطة التنفيذية من التغول على السلطتين التشريعية والقضائية أو على أحدهما كانت النتيجة الحتمية التي لا مفر منها هي الخراب والدمار ونهب المال العام ومن ثم المال الخاص والفقر وفقدان السيادة على المدى الطويل.
إن مفهوم الدولة الحديثة لا ينطبق إلا على تلك الدول التي استطاعت أن تجد التوازن الدقيق بين السلطات الثلاث. فتفقد الدولة صفتها كدولة بفقدها هذا التوازن، وعادت إلى مرحلة السلطة، التي هي سابقة على الوصول إلى صيغة الدولة سياسياً.
أهمية دور السلطة القضائية
ولعل قيام السلطة القضائية بدورها الكامل الذي يرسمه الدستور، واحترام السلطة التنفيذية لهذا الدور وتعزيزه وتعميقه، يشكل حافزاً هاماً لارتفاع معدلات النمو الاقتصادي، وتحسن أداء المجتمع بكافة المجالات. كما أنه يشكل عامل جذب شديد الأهمية للاستثمارات الكبرى الخارجية منها والداخلية. لأن الاستثمار في كافة القطاعات الاقتصادية بما فيها السياحية والتعليمية، وسواء أكان المستثمر مواطناً أو أجنبياً، يحتاج الى درجةٍ عالية من الوثوقية بتطبيق القانون والاستقرار. لأنه يخلق حالةً من الحماية لرأس المال من الاعتداء عليه، من خلال العمليات الاقتصادية المتبادلة سواء مع الجهات الحكومية أو الخاصة. كما أن الحالة الأمنية المستقرة التي يعززها احترام القانون وسيادته، تخلق البيئة الآمنة اللازمة للاستثمار بمشاريع كبيرة. كونها طويلة الأمد وأكثر جدوى في دعم وتطوير الاقتصاد الوطني، وبالتالي العملة المحلية. كما أن توفر إمكانية اللجوء الى القضاء للحصول على الحقوق يخلق علاقاتٍ اقتصاديةً خارجيةً وداخلية متينة ومستقرة.
لذلك فإن القانون، وسيادة القانون، وصدقية تطبيق القانون على الحاكم والمحكوم من قبل القضاء، والمحاكم الوطنية، وسرعة الأداء في عمل المحاكم، يخلق حالةً من الاطمئنان لدى العامة أن حقوقهم مصانةٌ، وأن لا أحد يستطيع أن يكون فوق القانون. مما يشجع الإنتاج، والاستيراد والتصدير، ويرسخ مفهوم الدولة، ويطور العلاقات الاقتصادية الخارجية والداخلية، ويصنف السوق بدولةٍ ما أنه آمن للاستثمار.
إن تطبيق مبدأ فصل السلطات بما يعنيه من استقلالية عمل كل من السلطات الثلاث، هو الذي يفيد وجود دولة بالمفهوم السياسي، ويميزها عن كونها سلطةً فقط. وهو المبدأ الذي يسمح بتطور الدولة بشكلٍ مستمرٍ، وصولاً لتحقيق طموحات مواطنيها بالاستقرار والازدهار وبغير ذلك فلا دولة.
المحامي عادل الهادي