يحتل موضوع الرأي العام وصنع القرار، موقعاً متقدماً في الدراسات التي تؤصل للتطور الديمقراطي والمشاركة السياسية، أو الدراسات التي تبحث في علوم الاتصال والاجتماع السياسي، والأدبيات المتعلقة بصنع القرار السياسي ونظم الحكم. وقد تزايد الاهتمام بالرأي العام في الدراسات المعاصرة نتيجةً لثورة المعلومات التي منحت فرصاً أوسع للتعبير عن الرأي في الحياة السياسية المعاصرة، وبخاصة علاقته بصنع القرار.
وقد كثرت الاجتهادات في تعريف الرأي العام لكن التعريف الأكثر شيوعاً كان أنه “هو ذلك التعبير العلني والصريح الذي يعكس وجهة نظر أغلبية الجماعة تجاه قضية معينة في وقت معين”.
كما أنه يشكل مجموعة الآراء التي يعبر عنها أفراد الجماعة إما من تلقاء أنفسهم، أو بناءً على دعوة توجه إليهم، تعبيراً مؤيداً أو معارضاً لحالة محددة أو شخص معين أو اقتراح خاص. ما يترتب عليه احتمال القيام بسلوكٍ مباشر أو غير مباشر. وكذلك هو محصلة أراء أفراد الجماعة، والرأي العام كنتاجٍ جماعيٍ يمثل الجماعة كلها معبأة للسلوك والعمل فيما يتصل بموضوع معين.
لمحة عن خصوصية الرأي العام في السويداء:
إن أغلب جمهور السويداء هو جمهور غير منقاد، بل هو جمهورٌ صلب اعتاد على النقاش قبل تكوين آرائه، والانحياز إلى جانب من الجوانب. فالسويداء بجمهورها متنورة، وفيها نخبة مثقفة لا يستهان بها، وقد بلغ عدد الإجازات الجامعية في المحافظة أكثر من ٣٦٠٠٠ إجازة جامعية منوعة، وهذا رقمٌ مميزٌ بالنسبة لعدد السكان.
كما يشكل الرأي العام دوراً رئيسياً في تقييم دور السلطات المحلية (المحافظة، المجالس البلدية، المؤسسات الخدمية). فرأينا سقوط الكثير من مدراء المؤسسات بعد ضغط للرأي العام، واستجاباتٍ حصلت نتيجة الضغط الشعبي فيما يخص الخدمات، ولكن ضمن الإمكانيات المتاحة في المحافظة. والأمثلة كانت قائمةً من خلال الاحتجاجات الشعبية أمام مؤسسة الكهرباء أو المياه أو مديرية التربية، ووصلت بعض الاحتجاجات إلى تغيير عدد من رؤساء المجالس المحلية في المحافظة.
آليات تشكل الرأي العام في السويداء:
لا شك أن العوامل والمؤثرات في الرأي العام كثيرة، وهي حاضرة في عملية تشكل الرأي العام في السويداء. إن كانت مؤثراتٍ سيكولوجية ترجع إلى طبيعة الفرد نفسه وإلى طبيعة الجماعة وتأثيرها على الفرد. أو مؤثراتٍ سياسية تتعلق بالقوى الفاعلة على المستوى الداخلي أو الوطني أو الدولي. ومؤثرات ثقافية واجتماعية، تتكون من مجموعة القيم والمعايير وتحكم إدراك الفرد وسلوكياته، حيث يمر تشكل الرأي العام بمراحل هي:
- مرحلة الإدراك
- مرحلة الرأي الفردي
- مرحلة صراع الفرد مع آراء الجماعة
- مرحلة تحول آراء الأفراد إلى آراء الجماعة
وبمحصلة ما سبق نرى أن الرأي العام في السويداء قائم بالأساس على البعد الأخلاقي والبعد التراثي الذي تربت عليه الأجيال بناءً على تاريخ المنطقة. ومجتمع السويداء يحاول دائماً مواكبة حركة تطور الحضارة بدون إلغاء الهويات الفردية والجماعية والوطنية. فنرى تاريخ المجتمع والمواقف والقيادات التاريخية التي عاشها الأجداد تطرح دائماً في تشكيل الرأي العام تجاه القضايا الحاضرة.
وسائل الإعلام والرأي العام في السويداء
لم يعرف الإعلام في السويداء طوال العقود الستة الماضية حالةً من الحرية بسبب اتباعه لسياسة الإعلام الحكومي المركزي. والذي كانت معبراته منحصرةً بوسائل الإعلام الحكومية الأساسية، حيث الرقيب حاضر بقوة. وإن كانت الهوامش تبدو أكثر مرونةً فيما يخص الشعر والأدب والغارقة غالباً في السيرة التاريخية للمنطقة. لكن مع حركة التطور الإعلامي وظهور ما يعرف بإعلام المواطن والحاضر عبر وسائل التواصل الاجتماعي بقوة، بدأت حرية الإعلام تتسع وتساهم في تشكيل المزاج العام وليس فقط الرأي العام. وذلك لأن إعلام التواصل الاجتماعي، سمح بامتلاك أي شخص لمنصة وأمّن بيئةً تفاعلية. لكن على حساب المهنية والمصداقية والموضوعية، فراحت تنتشر الأخبار الكاذبة وخطاب الكراهية وغيرها.
كما ساهمت وسائل التواصل من جهة أخرى بخلق مجتمعات تحمل هوياتٍ خاصة، على مستويات عائلية أو مناطقية أو بناء على اهتمامات خاصة فكرية أو اقتصادية أو سياسية أو مدنية أو حتى عسكرية، ليتم من خلالها العمل على المصلحة المشتركة لكل من هذه المجموعات.
المؤثرات في تشكيل الرأي العام بالمحافظة عموماً وكيف تمثلت بعد الهجوم الإرهابي عليها:
إن من أهم ما يؤثر في الرأي العام هو العوامل النفسية والثقافية والنسق السياسي والأحداث والمشكلات والإعلام والدعاية والشائعات. وبالنسبة لمحافظة السويداء فإن من أهم المؤثرات في تشكيل الرأي العام:
- البعد الاجتماعي والعائلي: حيث نرى دور الروابط الأهلية والعائلية في صياغة المواقف مرتبطة بعدم التخلي عن مراكز القوة، ومعبراتها مجالس أهلية، يزداد زخمها في عمليات الانتخاب، متماهية مع سياسة الأحزاب المترهلة، فنرى أن نجاح الأفراد في الشأن العام مرتبط بعصبيات وتوازنات تلك المجالس. وتبقى الأحداث الكبرى كمجازر “تموز الأسود” 2025، بحق الدروز في السويداء على يد القوات الحكومية وميليشيات العشائر، محرضات إحداث تغيرات عميقة في الرأي العام، ومحدداته السابقة، ما قد ينتج سياقات مختلفة عما سبق.
- البعد الاقتصادي: يلعب الاقتصاد دوراً هاماً في بناء الرأي العام، حيث ترتبط توجهات الأفراد والمجتمعات بمستوى معيشتها، وبالتالي يعتبر الاقتصاد واحد من أهم موجهات الرأي العام، وهذا يمكن أن نلمسه خلال الحملات الانتخابية، تصدير القيادات عبر الملاءة المالية، وكما يستخدم في عليات الإرضاخ والقبول المجتمعي، كما يحدث اليوم في السويداء عبر تطبيق الحكومة المؤقتة الحصار الاقتصادي، وهذا أيضا خلق طريقاً جديداً للبحث عن البدائل، فكان الرد الشعبي محاولات تنظيم اقتصادٍ محلي قائم على الاكتفاء الذاتي والدعم الأهلي.
- البعد السياسي: كان الرأي العام المحلي موافقاً ومندمجاً ضمن الرأي العام الوطني، بما يخص القضايا الوطنية، مثل وحدة البلاد والشعب التطلعات إلى الحرية، لكن هذا لم يمنع وجود اختلافات بقضايا أخرى مثل شكل إدارة الحكم، وشكل المؤسسة العسكرية ومساحات الحريات، لكن بعد مجازر تموز تعرض الرأي العام لتغيرات جذرية.
- البعد الثقافي والإعلامي: تميز الخطاب الثقافي والفني بالسويداء بسويةٍ قيمية عالية، وخاصةً مع وجود نخب من الشعراء والأدباء والكتاب والمثقفين والمتنورين. وهذا ما ساهم في عدوى ثقافية بالمجتمع بشكل عام. ولكن عقب الصدمة الدموية، تعرضت الهوية والذاكرة التاريخية إلى رض قوي، دفع إلى استدعاء تاريخ الصراع مع البدو وأعاد تنشيط خطاب “الدفاع عن الوجود” ورفض التبعية، والانتقال من الحالة الوطنية إلى الحالة الدولية وحماية الوجود.
- العامل الخارجي: لم يكن للعامل الخارجي تأثير كبير على الرأي العام في السويداء وخاصة أن أهالي السويداء يعتبرون أن قرارهم قرار مستقل لا يتبع إلا لما يعتقدون بأنه يوافق مصلحتهم وتاريخهم وضمن صيغ الدولة الوطنية. لكن مع الحرب السورية وانتشار العنف والذي وصل إلى تهديد الوجود الدرزي، فتح الواقع البوابة أمام التدخل الخارجي، ولعب دور رئيسي في توجيه الرأي العام
- الجاليات الدرزية بالخارج: ازداد تفاعلهم ودعمهم المادي والمعنوي، بسبب شعورهم بأن مجتمعهم في الداخل مستهدفٌ من عدة جهات متحالفة. حيث كثفت الجاليات الدرزية الدعم الإعلامي والمادي لأنه تهديد وجودي للطائفة، وأصبح لها دور أكبر في التأثير على الرأي العام.
- الفعاليات المدنية: “المبادرات الشبابية، الجمعيات الأهلية، الاحتجاجات والوقفات الشعبية”: عرفت السويداء الكثير من الفعاليات المدنية، وخاصة أن مجتمع السويداء أقرب إلى الحالة المدنية وأقرب إلى الاندماج في الحركة الحضارية، من خلال ارتفاع نسبة المتعلمين ونسبة التعليم بشكل عام. ولكونه مجتمع غير متدين أو مجتمع يؤمن بإحياء حالة سلفية سابقة، فهو مجتمع ينتسب للمستقبل أكثر من الماضي. وظهر هذا جلياً في التظاهرات والوقفات والاحتجاجات الشعبية التي كانت تؤمن بالتغيير السلمي للسلطة وتطوير الإدارة بما يناسب حركة التطور البشري.
خاتمة
مما لا شك فيه أن الرأي العام في محافظة السويداء بشكل عام يبقى رأياً ناضجاً عاطفياً وعقلانياً. ويبقى تعبيراً صادقاً عن كيان وجود هذا المجتمع وشعوره وصوته وحركته الدائبة نحو التقدم والصعود. فهو رأي يسعى دائماً نحو التفكير الصحيح المنظم، وهو ما يحققه التوجيه العلمي. وهذا أمر له صعوبته وطريق له وُعورته، في ظل البيئة العنفية المحيطة به، وعدم الاستقرار الأمني والسياسي. ولكنه بالتأكيد الطريق الذي سلكته الدول المتقدمة في الحضارة التي يُوجٍّهها اليوم الرأي العام المتطور دائماً.
الأستاذ طلعت الحسين