يُعد المجتمع المدني أحد أهم الفواعل غير الحكومية التي تساهم في صياغة السياسات وبناء التفاهمات المجتمعية حولها وتهيئة المجتمع لها. خصوصاً في حالات ضعف المؤسسات الرسمية العاجزة عن القيام بدورها الفاعل. وهي الحالة التي لا بد من الاعتراف بها في سوريا في أي مقاربة موضوعية.
ومع حالة انقسام البلاد إلى مناطق نفوذ مختلفة تحت سيطرة قوى متنوعة، تزداد أهمية الدور المدني في العمل على بناء سياسات موحدة تلبي احتياجات المجتمع السوري بمختلف مناطقه. لذلك ينطلق هذا المقال من محاولة التفكير بالآليات التي يتعاطى بها المجتمع المدني بفعالية لتحقيق التعافي. ويمكن توزيعها إلى مستويين:
شبكات التنسيق وتهيئة الجغرافيات
من أهم آليات المجتمع المدني في التعافي المبكر قد تكون تهيئة الجغرافيات المختلفة لحالة التعاون والتكامل فيما بينها. وضمن هذا الهدف يمكن لمنظمات المجتمع المدني في مناطق السيطرة المختلفة العمل على إنشاء “شبكات تنسيق” مشتركة تعمل على تحديد الأولويات والسياسات العامة التي تخدم المجتمعات المحلية. ولعل تدويل الأزمة السورية هو من سهل مثل هذا المقترح. إذ أن اللقاءات والمؤتمرات وورشات العمل خلقت تواصلاً إيجابياً بين الفواعل المدنية في مختلف الجغرافيات وبات بإمكانها اليوم التحول إلى “شبكات تنسيق”.
يمكن لهذه الشبكات أن تشكل قنوات اتصالٍ مستمرة تعمل على تعزيز التفاهم وتقليل الحساسيات بين الجغرافيات قبل عملها مع أطراف الصراع. ولعل من أهم الفرص على هذا الصعيد كانت تجربة أزمة كورونا التي حولت الجميع إلى العالم الافتراضي. حيث لا أهمية للحدود الفيزيائية ولا لخطوط السيطرة البينية. وتجربة المناطق المحاصرة خلال الحرب كانت جيدة لناحية قيام المجتمع المدني بتنظيم عمليات إدخال المساعدات الإنسانية والطبية عبر خطوط التماس. وهذا التنسيق يمكن قراءته ليس من زاوية إنقاذ الأرواح فحسب، بل وأيضاً من زاوية مساع تعزيز الشعور بالتضامن بين المجتمعات المحلية.
ومن أسهل الترتيبات التي يمكن لشبكات العمل المدني أن تقوم بها تنظيم ورشات عمل وجلساتٍ حوارية افتراضية من مختلف المناطق. للتواصل وتبادل وجهات النظر للوصول إلى تفاهمات ترسخ فكرة التعاون المشترك حول القضايا ذات الأولوية، وبرامجها وأهدافها. مثل منصات التعليم الافتراضي، والاستشارات الصحية، وغيرها من البرامج التي تقع في إطار الاستراتيجية الأممية للتعافي المبكر التي أطلقت مؤخراً. بحيث يتم تصميم المشروع بشكلٍ يتجاوز خطوط التماس ويعزز التكامل بين المجتمعات المحلية.
من جهةٍ أخرى يمكن التركيز على حملات التوعية، التي تعد وسيلةً فعالة لتوحيد الرؤى حول قضايا محددة. مما يساعد في بناء ضغط شعبي على القوى المحلية لتنفيذ سياساتٍ موحدة. هذا الضغط يمكن أن يركز كذلك على قضايا تضمنتها استراتيجية التعافي2024 مثل التعليم الموحد والجيد والخدمات الصحية الجيدة العابرة للخطوط.
التدخل المتدرج مع قوى السيطرة
تعتبر الشفافية من أهم شروط التعافي، لذا بإمكان المجتمع المدني الضغط على السلطات المحلية في جميع الجغرافيات للالتزام بالشفافية في إدارة الموارد وصياغة السياسات. ويمكنه تحقيق هذا الدور بإطلاق حملاتٍ إعلامية، أو نشر تقارير دورية تُقيّم أداء هذه السلطات. ولكن قد يتطلب هذا الأمر تواصلاً مباشراً مع قوى السيطرة، وقد يصبح أكثر أولويةً بغياب مؤسساتٍ وسيطة بين السلطات والمجتمع.
وبالمقابل، قد يكون للمجتمع المدني دور محوري مستقبلاً في التفاوض مع فواعل السيطرة المحلية المختلفة أو الضغط عليها حول سياساتٍ موحدة في مجالات تحدثت عنها “الاستراتيجية الأممية” أو غيرها. وهنا تستحضر التجارب المدنية خلال الحرب نفسها. كما حصل خلال الضغط المدني الواسع لتأمين مياه الشرب إلى دمشق خلال عمليات وادي بردى. وضغط المنظمات المحلية بدرعا عام2018 على الفصائل لضمان توفير المياه والكهرباء بالتنسيق مع الحكومة المركزية، مما ساعد بتقليل معاناة السكان. في هذا المضمار للمجتمع المدني أن يضع أمام قوى السيطرة خبراته ومخرجاته في دراسات احتياجات المناطق التي كان يستهدفها وتطور الخدمات فيها ومنهجيات قراءته للمناطق.
من زاوية أخرى، قد يتطور المجتمع المدني في لحظةٍ سورية فارقة. ليبادر بنفسه بتقديم مبادرات تعزز التفاهم بين قوى السيطرة المختلفة والتشجيع على التعاون في صياغة سياسات موحدة للمرحلة المقبلة. وفي سبيل هذه المبادرات يمكن أن يعمل على تمكين المجتمعات المحلية من المشاركة بصنع السياسات عبر آلياته وبرامجه ومشاريعه، التي توفر الاستبيانات وحلقات النقاش المجتمعي والتدريبات على الآليات. بحيث تعكس السياسات المقترحة تطلعاتٍ توافقيةً بشكل موضوعي.
لكن طالما أن هدف المدني المستمر سيركز على التأثير في السياسات المحلية بما يضمن توافقها مع احتياجات السكان. فإن الدور المدني قد يتطور ليصبح أكثر بنيويةً ضمن المؤسسات التي خلقتها قوى السيطرة. من خلال انخراط المجتمع المدني مع لجان التخطيط واللجان التنموية ولجان الأحياء ليكون شريكاً بصنع القرار في كل جغرافية.
التحديات والعوائق لتدخل المجتمع المدني السوري في التعافي المبكر
أثبت المجتمع المدني قدرته على تجاوز الانقسامات الجغرافية والسياسية من خلال التركيز على احتياجات السكان. وأظهرت التجارب أن التنسيق بين منظمات المجتمع المدني يمكن أن يخلق حلولاً مستدامة ومقبولة لدى جميع الأطراف.
لكن، لا يمكن الحديث عن مستويات وآليات التدخل السابقة دون التوقف برهةً أمام جملة تحديات قد تعيق هذا الدور المدني. يأتي في مقدمتها الاستقطاب السياسي. إذ تواجه منظمات المجتمع المدني صعوبةً في العمل ترتبط بتصنيف الفاعلين بناءً على انتماءاتهم السياسية أو الجغرافية. وكذلك ترتبط الصعوبات بنقص الموارد البشرية والمالية، مما يحد من قدرتها على تنفيذ برامج طويلة الأمد. كما أن اختلاف القوانين والتشريعات بين المناطق قد يفرض تحدياتٍ مضاعفة على عمل المنظمات ويعيق حركتها وتنقلها.
بالمجمل يتطلب تحقيق كل ما سبق تطوير آليات تنفيذية مبتكرة وشراكاتٍ مستدامة، مع التركيز على تمكين المجتمعات المحلية وتفعيل دورها في صنع القرار.
الباحث سامر ضاحي
ماجستير في الدراسات السياسية- جامعة دمشق
تركز دراساته على البنى السياسية والاجتماعية والمحليات
للمزيد حول التعافي المبكر