الجبل والسهل تاريخ وعيش مشترك… ولكن!!!

رغم التنوع الديني والعشائري والعائلي بين المحافظتين، إلا أنه يشكل عاملاً يغني التراث المادي واللامادي، ويعزز التاريخ والعيش المشترك بينهما. حيث يتشابه المجتمعان بالمأكل والمشرب، فهناك العديد من الأكلات التراثية المشتركة والمشهورة في كلتا المحافظتين. مثل أكلة (المليّحي أو الملّحية) التي يتقن صناعتها أهل السهل والجبل، والقهوة المرة التي لا تخلو منها المضافات

تراثٌ وتاريخ مشترك

يجمع أبناء المحافظتين الجارتين درعا والسويداء في الجنوب السوري، العديد من العادات والتقاليد المشتركة. ويتميز سكان حوران سهلاً وجبلاً بحسن الاستقبال والضيافة وإغاثة الملهوف والكرم الأصيل. الذي تأصل في المضافة بصورتها المعروفة المبنية من حجر البازلت، وذات المساحة الواسعة. والتي يلتقي بها أكبر عددٍ ممكنٍ من الأهل والضيوف، ويتفاعل بها الكبير والصغير، وتترسخ بها أخلاق ومكارم المجتمع. لتتحول في كثير من الأحيان إلى أرضيةٍ مشتركة تعزز التعاون والتكامل والسلم الأهلي. وفيها تتم الوساطات والمحاكم الاجتماعية، إذ يتم فيها فضُّ النزاعات بين أبناء المجتمع بغض النظر عن هوياتهم. وتحقن الدماء ويجنح إلى السلم الأهلي. وتقام بها الأفراح والأتراح، وتبقى المساحة الآمنة لحوارات المجتمع في مختلف القضايا.

ورغم التنوع الديني والعشائري والعائلي بينهما، إلا أنه يشكل عاملاً يغني التراث المادي واللامادي، ويعزز التاريخ والعيش المشترك بينهما. حيث يتشابه المجتمعان بالمأكل والمشرب، فهناك العديد من الأكلات التراثية المشتركة والمشهورة في كلتا المحافظتين. مثل أكلة (المليّحي أو الملّحية) التي يتقن صناعتها أهل السهل والجبل، والقهوة المرة التي لا تخلو منها المضافات. 

وتصل الشراكة الاجتماعيّة بين الجارتين إلى الأغاني والأهازيج الشعبية. فالتراث صوت الذاكرة الجمعية الحي، وهو المعبّر عن تفاعلات المجتمع. على أنغام الآلات الموسيقية التراثية، مثل الربابة والدربكة (الطبلة) والقصبة الشبابة أو المجوز. ونذكر من الأغاني ما يعرف (بالدحية) والجوفية، والتي نسمعها في كافة المناسبات الحورانية (أفراح، وتفوق علمي، وحصاد الزرع…). إلى جانب الكثير من القصائد والأغاني التي تدور حول كرم وطيب الأهل والشجاعة التي يتميز بها أبناؤهم.

العلاقة الاقتصادية

تقوم العلاقة الاقتصادية بين الجارتين على مبدأ التكامل والتكاتف وحسن الجوار. حيث يتبادل الأهالي تاريخياً المحصولات الزراعية من الفاكهة والحبوب على تنوعها. ويتعامل التجار مع بعضهم البعض على مبادئ الأمانة وحسن التعامل وأخلاقيات التجارة المتوارثة. ويقصد أبناء السويداء محافظة درعا وينتشرون ببلداتها وقراها لبيع محاصيلهم الزراعية من العنب والتين والتفاح. ليشهدوا بذلك إقبالاً كبيراً على منتوجاتهم لجودتها وافتقار تلك القرى في درعا إلى هذه المنتجات، فضلاً عن بيع بعضها مجففاً مثل العنب والتين. ويبيع أبناء درعا الحبوب والخضار في السويداء، حيث تعتبر درعا سوقاً تجارياً كبيراً لتصريف منتجات السويداء والعكس صحيح.

وأهم ما يساعد على نجاح تلك العلاقات التجارية، هو العلاقات الاجتماعية والعائلية التي تجمع بينهما على الألفة والمحبة. والتي دامت زمناً طويلاً، قبل أن تعكر صفوَها مفرزاتُ الأزمة السورية. مع انتشار بعض الجرائم مثل الخطف والقتل، التي اختصت بها عصاباتٌ مسلحة من كلا المحافظتين. ما خلق حالةً من شبه القطيعة والتوجس، تطورت إلى شكلٍ من العدائية والنزاع الذي يتفجر بين الحين والأخر. مؤدياً إلى سقوط العديد من الضحايا. الأمر الذي غذى العصبيات الطائفية والعشائرية والعائلية، إضافةً إلى تظهير حالةٍ من الانقسام السياسي العامودي.

الحاج خالد مقداد، البالغ من العمر 62 عاماً، من أهالي قرية معربة شرق درعا، قال لـ”أرضية مشتركة”:

“قبل بدء الحرب عام 2011، كان هناك رجل اسمه أبو فرحان من مزارعي محافظة السويداء. يأتي كل يوم ليلاً بسيارته الصغيرة المعروفة محلياً (بالطريزينة)، مرتدياً زيّه الشعبي، ومحملاً معه صناديق الدراق، ليبيعها لأهالي القرية. وبأسلوبه الجميل وصوته العذب وتعامله اللبق، يجمع حوله الناس ليبيعهم حمولته. ويعود بكل ثقةٍ وأمانٍ إلى أهله، دون أن يلتفت حوله أو خلفه مثلما نعيش اليوم”. وهذا ما يؤكد حالة التماسك المجتمعي بين الجارتين.
وتؤكد جميع المعطيات أن خلق فرصةٍ لتبادل الخضروات والفاكهة والمنتجات الزراعية الأخرى بين درعا والسويداء، قادرةٌ على تحقيق وفرة كبيرة في أسعار السلع. وأن تلك التكاليف تنفق كأجور نقل وأتاوات مدفوعة على حواجز الأمر الواقع. ففي حين يحتاج مزارعو درعا قطع مسافة تبلغ 100 كلم لبيع الخضار في سوق الهال في دمشق، يحتاج أهالي السويداء لقطع ذات المسافة لاستيرادها. أما المسافة بين المحافظتين فتبلغ نحو 40 كلم، فضلاً عن أنها توفر على المورد والمستورد ما ينفقونه من أموال تدفع لتأمين وصولها. إلى جانب ما تحمله من قيم التواصل والحوار الداعمة للتماسك الاجتماعي.

فلتان أمني يؤرّق السلم الأهلي

ابنة منطقة بصرى الشام في ريف درعا الشرقي، “المتحفظة على ذكر اسمها” والبالغة من العمر 22 عاماً، والطالبة سابقاً في جامعة دمشق فرع السويداء. تستذكر شعورها بالراحة التي كانت تحسها في جامعتها، وشكل المعاملة التي كانت تقوم على أساس الأخوّة بينها وبين بنات وأبناء الجبل. مضيفة لـ”الأرضية المشتركة”: “لقد أتت الحرب على العلاقات المتبادلة بين الجارتين، وعمّ الفلتان الأمني المنطقة وانهارت العلاقات التجارية والاجتماعية منها بعض الشيء وزادت حالات الخطف المتبادل”. متمنية أن تعود العلاقات بين المحافظتين كما كانت في السابق لأن الاستقرار والأمان لا بديل عنه. فلديها الكثير من الأصدقاء التي ترغب بزيارتهم إلا أنها لا تجرؤ على ذلك، رغم التواصل الذي يقتصر على وسائل التواصل عبر الإنترنت.

وقد انتشرت عمليات الخطف والخطف المضاد منذ عام 2018، التي غالبا ما تكون بدوافع اقتصادية، بهدف الحصول على الفدية المالية التي وصلت إلى مبالغ كبيرة تجاوزت المئة مليون ليرة سورية مقابل تسليم المختطف لأهله، بضل انتشار البطالة والفقر الشديدين في عموم الجنوب السوري، بالتوازي مع انتشار واسع للسلاح العشوائي والفوضى ومختلف أنواع المخدرات، ناهيك عن عمليات السرقة اليومية بحق الممتلكات العامة والخاصة، والتي أدت للمساهمة بتخريب البنى التحتية، التي تم تدمر أجزاء منها نتيجة العمليات العسكرية وعدم الصيانة، فقد وصل الأمر في بعض الأعمال إلى سرقة أبراج الاتصالات وأكبال الهاتف والكهرباء وآبار المياه وقطع الأشجار الحراجية وحتى المثمرة منها، بغرض التدفئة والتجارة أو حتى التخريب.
كل ذلك كرس مظاهر قطع الطرقات والاشتباكات المسلحة عند حدوث أي مشكلة. ما يؤدي إلى شلل حركة العبور للمدنيين وتقليص تنقلاتهم بين المناطق حتى يصل الأمر إلى مقاطعة التنقل نتيجة هذه الأعمال.

إنّ استمرار ارتفاع نسبة ارتكاب الجرائم في المنطقة، يدق ناقوس خطر تفكك النسيج المجتمعي، وتهديد السلم الأهلي، وانزلاق المنطقة لأحداثٍ لا تحمد عقباها. مما سينعكس سلباً على العلاقة بين الجارتين، وما يستدعي إلى التدخل السريع  لتطويق العنف والجريمة الذين يمارسا في كلتا المحافظتين. وذلك لاستتباب الأمن، والتنسيق المشترك بين القوى الفاعلة، وعلى رأسها مؤسسات الدولة، والتي تعمل على رأب الصدع بين المحافظتين، وإجماعها على هدف وموقف واحد تجاه أي جهة تتلاعب بتاريخ المنطقة ونسيجها الاجتماعي.

وقد تكون أحداث منطقتي القريا وبصرى الشام المؤسفة في عام 2021، من أخطر الانفجارات التي شهدتها المنطقة. والتي ساهم في نشوبها العديد من الأطراف. إلا أن التوجهات المجتمعية المتمسكة بوأد الفتن والتماسك المجتمعي، دفعت إلى احتوائها عبر جهودٍ محلية تصدرها العقلاء المجتمعيون والمدنيون. والتي حصدت ثمارها بالصلح في المنطقة. ومن هنا تتأكد يوماً بعد أخر، ضرورة توحيد كافة الجهود من إعلام وجهود المجتمع، ومنظمات المجتمع المدني، في عملية بناء السلام وإحلال الأمان. من خلال السعي الحثيث والضغط على كل الجهات المعنية لمكافحة الجريمة والفلتان الأمني، ونبذ خطاب الكراهية ومحاربة لغة التمييز المناطقي، والتي يجب أن تختفي ليعم السلم الأهلي في المنطقة ليستطيع أبناء السهل والجبل تجاوز المحنة التي سببتها الحرب.

ولا يمكن إغفال دور العديد من وسائل الإعلام المدنية المحلية في تعزيز السلام، عبر نقل الأخبار الصحيحة وتعرية الإشاعات والوقوف بوجه خطاب التحريض والكراهية الذي يطفو على السطح في ظل النزاعات.

ويبقى حق الجيرة بين المحافظتين، وما جمعهما من تلاحمٍ وتعاضدٍ، أكبر من إثارة التفرقة والفتنة بين أبناء الجارتين. مؤكداً أن ما يحصل لن يدوم طويلاً، ويبقى التاريخ الناصع بينهما هو الأبقى والأقوى، لو أتيح للمجتمع الفرصة لحل مشكلاته ورأب الصدع الذي حدث.

اقرأ المزيد: العادات والتقاليد ودورها المجتمعي في زمن الأزمات

فريق التحرير