تبقى عملية تعافي البلاد مرهونةً بجملة من الهواجس التي لا يمكن التغافل عنها، بل ويجب التعامل معها بجدية. إضافةً للتفكير بالفواعل الأساسية ومواقفها من هذا التعافي، في ظل استقطابٍ رسخته سنوات النزاع السوري في 4 جغرافيات، على الأقل، تتنازعها قوى مختلفة. وتبدو فرصة السوريين اليوم متاحةً للانطلاق نحو تعافي مبكر في سوريا بناءً على الفرصة التي توفرها الاستراتيجية التي أطلقتها الأمم المتحدة مؤخراً. لذلك تحاول هذه المقالة البحث في ممكنات تحويل الخطوط العريضة للاستراتيجية إلى آلياتٍ تنفيذية تساعد في كسر خطوط التماس.
الهواجس:
بالمقابل ثمة واقع سوري لا يمكن تجاهله، وهو واقع مجزأ، تخضع فيه كل منطقةٍ من مناطق البلاد لسيطرة قوةٍ مختلفة. وهذا ما يثير مجموعة هواجس حول تعافي مبكر في سوريا:
- الاعتراف والشرعية: تخشى الحكومة من أن يؤدي أي عملٍ أممي أو سوري إلى اعترافٍ رسمي ببنى الحوكمة الأخرى. كالحكومة المؤقتة في شمال غرب البلاد؛ وحكومة الإنقاذ في إدلب، والإدارة الذاتية في شمال شرق البلاد. وهي التي لا تريد إسباغ أي نوع من الشرعية على هذه البنى. وترى أنها صاحبة التمثيل الشرعي للسوريين بموجب قواعد القانون الدولي وعضويتها في الأمم المتحدة. بالمقابل تخشى البنى الأخرى من استعادة دمشق علاقاتِها الدولية مع الدول الأخرى، التي ناصبتها العداء خلال سنوات الحرب السورية.
- التحكم والسيطرة: لا يمكن تنفيذ أي استهدافٍ للمجتمعات المحلية في سوريا بدون موافقة الفواعل الرسمية المسيطرة على الأرض. وبالتالي كل قوةٍ مسيطرةٍ ستعمل على توجيه هذه المشاريع بما يخدم أجنداتها.
- التمويل: سيكون لمشاريع التعافي دورٌ في دعم أي نظام حوكمة، جراء دور الأخير في تحديد أولويات المشاريع الممولة. متجاوزة بنسبة ما أساس حصول منطقة تضم سوريين على مثل هذا التخصيص، لا سيما وأن الأطراف الأخرى لن يكون بمقدورها مراقبة مسارات إنفاق هذا التمويل.
- العقوبات: ستجد كل مشاريع وبرنامج التعافي سيف الإجراءات الأحادية الجانب مسلطاً عليها في كافة الجغرافيات السورية.
- التنازع والصراع: تخشى كل قوة مسيطرة في جغرافية من الجغرافيات أن تخضع عمليات التعافي لإرادة طرفٍ دون آخر. كأن تحصل دمشق على إدارة هذه العملية لصالح مناطق سيطرتها.
- الخطوط والحدود: وهو تحدٍّ يتبع لقوى السيطرة وتجاوبها مع برامج التعافي وقدرتها على التحكم بالمعابر بين المناطق السورية، وبينها وبين الدول المجاورة.
- اختلاف الأولويات: قد تكون الأولوية لإحدى الجغرافيات مختلفةً عن أولوية جغرافية ثانية، وهذا قد يشكل إعاقةً للقيام بمشاريع تكاملية.
- اختلاف المرجعيات: الأمر الذي قد يظهر أن البرامج مختلفة عن بعضها، وإن كانت تنفذ بالتوازي بين المناطق.
الفواعل في التعافي المبكر
ترتبط التحديات السابقة ارتباطاً وثيقاً بالفواعل الرسمية المرتبطة ببنى الحوكمة. لكن هناك فواعل تملك القدرة على تخطي التحديات السابقة وهي:
الأمم المتحدة: بأجهزتها ووكالاتها المختلفة القادرة على لعب دور إيجابي في ربط التعافي ببرامج تكاملية وعابرة للخطوط، أياً كان الشركاء المنفذون.
المجتمع المدني: تملك فواعل المجتمع المدني القدرة والمصلحة على لعب دور وسيط، وتوجيه عمليات التعافي لتكون عابرةً للخطوط ووفق استراتيجيات تربط بين الاحتياجات الفعلية ومصالح الأطراف. ويملك قدرةً على التفاعل مع المجتمعات المحلية أكثر من أي فاعلٍ آخر، وقدرةٍ مشابهة على تفعيل الانخراط المجتمعي في عمليات التعافي بما يسبغ عليها مزيداً من الشرعية. ويفرض نوعاً من الرقابة المجتمعية عليها بما يحقق معايرة موضوعية لها. خاصة بما يمتلكه من ثقة استطاع تحقيقها طوال السنوات السابقة، تتيح التفاعل معه بعيداً عن أي استقطاب سياسي أو عسكري.
المجتمع الأهلي: لايزال النموذج الأقرب للمجتمعات المحلية في البلاد، ولديه قدرةً أكبر على حشد الجهود المحلية إيجاباً مع عمليات التعافي، وقدرةً على المساهمة في تمويلها.
الدول المانحة: رغم أن الدول المانحة قد يكون لها أجنداتها وأولوياتها، إلا أنها بالمقابل قادرةٌ على لعب دورٍ إيجابيٍ بحصر تمويلها للمشاريع والبرامج المستدامة والمتكاملة العابرة للخطوط.
المغتربون: نسبةً إلى حجم ومساحة الانتشار السوري بات المغتربون فاعلاً مهماً لناحية نقل البرامج والمشاريع في بلدان الاغتراب، ولناحية ما يتم تحويله من تمويلاتٍ لدعم مجتمعاتهم يمكن أن يتم توظيفها لدعم برامج التعافي.
الآلية لتعافي مبكر في سوريا
من كل ما سبق؛ قد يكون من أهم الآليات إنشاء فرقٍ مشتركة من منظمات المجتمع المدني في الجغرافيات المختلفة والمنظمات الدولية لتحديد الأولويات المشتركة بين المناطق، والاستراتيجيات الممكنة للاستهداف. ثم تتعاون منظمات كل جغرافية مع الأمم المتحدة وبنى الحوكمة لتنفيذ المشاريع في كل منطقة، وهذا لا يعني تولي المنظمات المدنية حالةً سلطوية في التعافي، قد تخلق حالةً صدامية مع قوى السيطرة بما يعيق تكاملية المشاريع.
وما هو متاح اليوم من استراتيجيةٍ أمميّة للتعافي قد يساعد في ثلاثة أمور أساسية:
الأول: وجود الاستراتيجية بحد ذاته يعني أن الأمم المتحدة نالت مباركة البنى الحوكمية المختلفة وقوى السيطرة عليها.
الثاني: توافر حوكمة التعافي في الاستراتيجية من خلال اللجنة التوجيهية ولجنة الخبراء، وهما مشتركتين بين مختلف الجغرافيات. بينما اللجنة التنفيذية يمكن أن تتفرع إلى أربع لجان حسب كل جغرافية.
الثالث: تحديد أربع محاور للتدخل الهادف إلى تعزيز القدرة على الصمود، وبالتالي هناك أرضية للقطاعات المشتركة.
آليات تشغيلية
القطاعات التي تضمنتها الآلية الأممية، فيمكنها أن تتطور من خلال آليات تشغيلية أو تنفيذية لكل محور من محاور الاستراتيجية الأممية:
- الصحة والتغذية: من أهم آلياتها إيجاد مراكز صحية على خطوط التماس، ودعم المشافي. لا سيما أن الحرب السورية انتجت آلاف الضحايا ممن هم بحاجة إلى عناية طبية مستمرة. مع الاستمرار بالبرامج الحالية التي توفر تغذية للأطفال والنساء وضحايا الحرب.
- ضمان الوصول إلى التعليم الجيد: من خلال دعم منصات تعليمية افتراضية تقدم محتوى تعليمي موحد لجميع الطلاب في مختلف المناطق. وآلية إلكترونية لمنح الشهادات يتم تصديقها مركزياً، لتكون معتمدةً عالمياً وخاصةً للتعليم الثانوي. ولا بد من برامج استهدافية للمعلمين عابرة للخطوط، وافتراضية، لتعزيز مهاراتهم وتبادل خبراتهم.
- تحسين خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية: قد تكون مشاريع المياه هي الأكثر إلحاحاً والأعلى من حيث جدواها القطاعية وعلى صعيد بناء السلام. كون الشبكات السورية قديمةً ومشتركةً بين المناطق لذا يمكن تعزيز التفاهمات حول المياه وتطوير الشبكات القائمة.
- دعم فرص كسب العيش المستدامة والسياقية وتعزيز الوصول إلى الكهرباء: من خلال برامج تمكينية للمجتمعات المحلية لتقوم بتنميتها المحلية. ويمكن هنا اعتماد النهج القائم على المنطقة وتعزيز التعاون الاقتصادي بين المناطق. كما يمكن الاعتماد على مشاريع ضخمة للطاقة المتجددة، تكون عابرة لخطوط التماس. ويمكن اعتماد آليات صيانة مشتركة لها أيضاً، بما يعزز تعاون المجتمعات المحلية.
يرتبط تفعيل الآليات التشغيلية السابقة بحشد جهود الفاعلين، وإقناعهم بقدرتها على دعم صمود مجتمعاتهم المحلية. ويمكن أن يتحقق أثرها من خلال الشراكات التي تتضمنها مع المجتمع المدني والمنظمات الدولية. كما يمكن للمجتمع الأهلي والمغتربين والمانحين لعب دور كبير في تمويلها، لكن المهمة الأهم تقع على عاتق المجتمع المدني لأن مسؤوليته الأساسية ستكون تمليك وتوطين هذه المشاريع للمجتمعات المتجاورة من أجل قيامها بتفعيل مواردها المحلية والمشتركة لضمان ديمومة كفاءتها.
الباحث سامر ضاحي
ماجستير في الدراسات السياسية- جامعة دمشق
تركز دراساته على البنى السياسية والاجتماعية والمحليات
للمزيد اقرأ