تنقل اللهجة خلاصة الموروث اللفظي الذي استقرت عليه منطقةٌ ما، بعد عصور مرّت عليها، وتخللها مرور حضاراتٍ وثقافاتٍ وشعوبٍ مختلفة. كلٌ منها أضافت بصمتها، أو تأثرت بسابقاتها، إلى أن باتت لكل منطقةٍ لهجتها الخاصة التي يُعرف أبناؤها من خلالها.
لا يقتصر البحث في اللهجات على الأحاديث اليومية أو أساليب التواصل بين الناس. وإنما يمتد للأهازيج الشعبية، والأغاني والشعر وغيرها من وسائل التعبير الموروثة غالباً والتراث اللامادي. والتي تحمل عبر اللهجة والمفردات وغيرها من العوامل مهمةَ الحفاظ على إرث منطقةٍ ما وتاريخها.
تنغمس اللهجات في لاوعي أبناء منطقة ما، لتصبح جزءاً من هويتهم، بغض النظر عن مكان اقامتهم. ومهما تغير المظهر وأسلوب الحياة تبقى لهجتهم معهم، وإن غابت أحياناً فإنها تستيقظ في وقتٍ ما. وهذا غالبا ما يلاحظ في العاصمة السورية دمشق، التي يعيش بها خليطٌ سوريٌّ عريض، حيث يتكلم الغالبية بلهجةٍ تعرف بلهجة بيضاءَ يفهمها الجميع. تتقارب بها اللهجات السورية المتنوعة مع اللهجة الشامية، لكن في بعض المواقف تستيقظ اللهجة المحلية. مثل حالات لقاء أبناء المنطقة الواحدة، أو الغضب حيث يعود فيها الشخص إلى لهجته الأصلية دون أن يشعر. ربما لأن دماغه يختار الطريق الأسهل للتعبير، فيعطيه خيار العودة إلى اللهجة الأصلية الأسهل على المتكلم بطبيعة الحال.
كثيرون هم من اضطروا لتغيير لهجتهم سواء بسبب تعرضهم لتنمّرٍ، أو لوصمٍ أو تنميط معين. بين ريفٍ ومدينة أو تخلفٍ ومدنية، أو ربما رغبةً منهم في التأقلم مع البيئة الجديدة. وفي الوقت ذاته، غيّر البعض لهجتهم في العاصمة مثلاً، لكنهم لا يجرؤون على تغييرها في مناطقهم. كي لا يصبحوا مادةً للسخرية من أبناء مناطقهم ونعتهم بتغيير أصلهم والتنكر إلى أهلهم ومجتمعاتهم.
اللهجة والمكان
يعاني “فراس شعبان” -اسم مستعار- وهو طالب جامعي من المنطقة الشرقية السورية يعيش في دمشق، من التنمّر على لهجته. إذ يقول أن زملاءه في الجامعة كانوا يعتبرون أنه لا يجيد شيئاً في الحياة سوى رعي الأغنام. ظنّاً منهم أن أهالي المنطقة الشرقية “التي تُعتبر ذات غالبيةٍ من المزارعين والفلاحين وتضم ثروة حيوانية غنية”، لا يجيدون إلا هذه الأعمال، وكأن من المهين أن يكون الشخص مزارعاً أو راعياً.
لم يتنازل “شعبان” عن لهجته بل جابه التنمر باهتمامه بالأهازيج والأشعار المحلية الغنية في منطقة الفرات. وبات سماع صوته وهو يدندن بعضاً منها في السكن الجامعي بدمشق، مرغوباً ومطلوباً من قبل زملائه هناك.
من جانبها، اضطرت الصحفية رنيم خلوف القادمة لدمشق من ريف حمص، لتغيير لهجتها منذ بداية دراستها في كلية الإعلام، واستقرارها في السكن الجامعي. لشعورها بأن البعض كان ينفر من لهجتها المحلية، والبعض الآخر يستهزئ أحياناً من مفرداتها، وطريقة لفظ الكلمات.
تعتبر “خلّوف” تغيير لهجتها تنازلٌ عن جزء من هويتها، لكنه فُرض على الكثيرين للاندماج مع الوسط الجديد. وقد ترتب على ذلك شعورها بضياع هوية لهجتها في مجتمعها الأصلي. حيث غيرت بعض مصطلحاتها وبات الأمر يسبب لها المشاكل في التواصل مع محيطها.
اللهجة والعمل
كما تعتقد خلوف أن الإعلام السوري من خلال برامجه التلفزيونية والإذاعية قدّم لهجة واحدة فقط هي “اللهجة البيضاء“، على الرغم من التنوع الكبير في اللهجات السورية. وهو ما ساهم في اعتبار تغيير اللهجة شرطاً للظهور الإعلامي.
وتعتبر أن الدراما السورية حاولت تغيير الصورة النمطية تجاه اللهجات المحلية من خلال بعض الأعمال التلفزيونية مثل “ضيعة ضايعة والخربة”. إلّا أن التغيير يحتاج إلى وقتٍ طويلٍ، ومجهودٍ جماعيٍّ من المجتمع والحكومة والإعلام، لتقديم اللهجات المحلية كما هي. ليعتاد الجمهور عليها ولا يضطر الأشخاص لتغيير لهجاتهم بغاية الاندماج في بيئة محلية أخرى ضمن البلد نفسه.
وبالاستماع إلى قصة رؤى ناصر وهي خريجة كلية الإعلام وتعمل حالياً في مجال الدوبلاج، نجد أنها وازنت بين استخدام لهجتها في الحياة اليومية، واللهجة البيضاء في العمل. ففي النهاية قد تضطر إلى التغيير، خاصةً في مجال الدوبلاج الذي يتم تقديمه باللهجة السورية البيضاء، التي يفهمها الجميع. وباتت مطلوبةً في الدول العربية وبعض المنصات العالمية كلهجةٍ معتمدةٍ للمسلسلات المدبلجة.
وتذكر “رؤى” مواقفاً كانت تواجهها كلّما تحدثت بلهجتها الأصلية “لهجة محافظة السويداء”. إذ يقوم الآخرون بتقليدها أو تقليد كلماتٍ منها كانوا قد سمعوها في مسلسلات تلفزيونية مثل “الخربة”. واعتبرت أن الأمر كان مستفزاً في بعض الأحيان، لذلك من المريح أن تختار طريقةً سلسةً في الكلام يفهمها الجميع، ولا تتسبب في تعرضك لأيٍّ من هذه الإزعاجات.
وفي الوقت ذاته لا يتقبل المجتمع المحلي في السويداء _على سبيل المثال، الأشخاصَ الذين يغيرون لهجتهم. ويصبح هؤلاء عرضةً للسخرية وأحياناً النبذ، وذلك تمسكاً باللهجة التي تشكل جزءاً من الهوية المشتركة لهم، والروابط التي تبنى بين أبناء البيئة الواحدة، وفقاً لـ “رؤى”.
تغيير اللهجة والأثر على الهوية
بينما تشير “سوسن” التي رفضت الكشف عن اسمها الكامل والتي تنتمي للمنطقة الشرقية من سوريا. أنها وجدت في تغيير لهجتها سبيلاً لتواصلٍ أسهل وأوضح مع أي وسط تنتقل إليه، معتبرةً أن تغيير اللهجة لا يشكل تنازلاً عن الهوية أو جزءاً منها.
قد يرى البعض أن تغيير اللهجة هو تنازلٌ عن الأصول والهوية، لكنّ سوسن تؤكّد أن من يريد الاعتداد بأصوله وثقافته بإمكانه أن يقدم محتوىً هادفاً عنها، ليعرّف الناس بها بطريقته. كما ويمكن له أن يحافظ على لهجته في محيطه الضيق، كي يبقي على الانسجام والتواصل الفعال معهم.
إذاً، حلّت “سوسن” مشكلة اللهجة بحيث أنها لم تدع الأمر يؤثر على حياتها، بل انسجمت مع ضرورات التغيير. وحافظت على استخدام لهجتها في الحالات التي تتطلب ذلك. لتكون نموذجاً، للعاملين في مجال الإعلام الذين اضطروا للحديث بلهجة “بيضاء” يفهمها الجميع، ولا تؤثر في الوقت ذاته على اللهجة الأصلية.
في النتيجة نجحت بعض التجارب في تجاوز أزمة تغيير اللهجة وتأثيرها حيناً على مجالات العمل، وأحياناً على الاندماج مع البيئة الجديدة والحفاظ على التواصل مع البيئة الأصلية. من خلال التأقلم مع ضرورة الاندماج وما يفرضه من تغييرات قسرية في بعض المواضع، والتمسك بالانتماء للهوية الأصلية من خلال إحدى عناصرها وهي اللهجة، في حين يشعر آخرون أن هذه التغييرات جائت على حساب هوياتهم.
اقرأ أيضاً: الهوية والذات
وهاج عزام