الزعامات التقليدية في السويداء.. حكاية سياسة ومجتمع واقتصاد

باسترجاع السياق التاريخي حول تشكل الزعامات التقليدية في جبل العرب (السويداء)، يمكن أن نجدها تقدم نموذجاً قد نستطيع مقاربته مع تشكل الزعامات في العديد من المناطق. كما سنكون قادرين بذلك على فهمٍ أكثرَ لظروف تشكل تلك الزعامات، وبالتالي فهم ما تلعبه اليوم من أدوار قائمة على تكريس العمل ضمن منظومة العلاقات العشائرية والعائلية، البعيدة عن تطبيق القانون وسيادته. لا سيما عند تراجع دور المؤسسات في تنظيم شؤون المجتمع. وهي بذلك تشكل أحد أكبر تحديات قيام الدولة المدنية، وتعزز النظام الأبوي المشوه في المنطقة، والقائم على طمس حرية الفرد وحقوقه لصالح التشكيلات التقليدية.

باسترجاع السياق التاريخي حول تشكل الزعامات التقليدية في جبل العرب (السويداء)، يمكن أن نجدها تقدم نموذجاً قد نستطيع مقاربته مع تشكل الزعامات في العديد من المناطق. كما سنكون قادرين بذلك على فهمٍ أكثرَ لظروف تشكل تلك الزعامات، وبالتالي فهم ما تلعبه اليوم من أدوار قائمة على تكريس العمل ضمن منظومة العلاقات العشائرية والعائلية، البعيدة عن تطبيق القانون وسيادته. لا سيما عند تراجع دور المؤسسات في تنظيم شؤون المجتمع. وهي بذلك تشكل أحد أكبر تحديات قيام الدولة المدنية، وتعزز النظام الأبوي المشوه في المنطقة، والقائم على طمس حرية الفرد وحقوقه لصالح التشكيلات التقليدية.

انتهاء مشيخة آل الحمدان

توضح المصادر أن كل الذين جاؤوا إلى الجبل، لم يأتوا حاملين ألقاباً. فقد كانوا من الطبقات الدنيا في مناطقهم الأساسية، وللضرورة تم إيجاد قيادة حملت لقباً ساد في الجبل. والمعروف اليوم بمحافظة السويداء أنه الشيخ، وزعيم المشايخ يقال له شيخ المشايخ. وهو يمثل (سلطة عشائرية فرضت نفسها زمن تشكلها لأسباب عديدة). واستخدم هذا اللقب طيلة فترة وجود آل الحمدان، واستمر اللقب بعد الانقلاب الذي قام به اسماعيل الأطرش. الذي توفي مسموماً عام 1869، وهو ذات العام الذي دخل به بلدة عرى وطرد هزاع الحمدان منها، وكلّفه الأتراك بمنصب مدير ناحية عرى.

وطرد آل الحمدان بشكل نهائي عام 1877 واستقروا حينها في بصرى الحرير، وقد وقعت في تلك الفترة، مجزرتان بآل الحمدان. الأولى في بصرى الحرير عام 1879، عقب معارك أهل الجبل مع الأتراك على خلفية عرس البدوي فهيد. حيث كان يحاول الناس إعادتهم إلى الجبل ليس كمشايخ بل كأفراد من عامة الناس. مما حدا بالأتراك بتسميم سبعة من آل الحمدان، ما عجل بقرار أهل الجبل بإعادتهم. أما المجزرة الثانية فقد وقعت في بلدة ولغا غرب السويداء، حيث أقام شيخ ولغا من عائلة أبو عساف وليمة غداء لهم، مات بعدها نحو 30 رجلاً منهم. فعادت نساؤهم مع أطفالهم إلى عائلاتهم، ومنهن سيدة من عائلة القنطار عادت إلى كناكر، وأخرى إلى القريّا وأخرى من آل أبو عساف إلى سليم.

ثورة العامية 1888-1890

انتفض غالبية الفلاحين للتخلص من مشيخة آل الأطرش بين عامي 1888-1890، وهو ما عرف حينها بثورة العامية. فتمكن الفلاحون بعد فشل الحل مع مشايخ آل الأطرش من توحيد كلمتهم، واستخدموا القوة وطردوا آل الأطرش من المقرن القبلي. واجتمعوا بعد ترحيلهم في قرية سهوة البلاطة، حسب ما يشير متعب الأطرش في مذكراته. وكان شيخ القرية حينها خطار الحناوي، المنصّب عليها شيخاً من قبل آل الأطرش إلى جانب أبو علي قسام الحناوي، عقب طرد آل الحمدان.

وتمكن محمد نصار حينها بالحيلة من جمع أبناء اسماعيل الأطرش الثلاثة، شبلي شيخ عرى ومحمد شيخ صلخد وإبراهيم شيخ السويداء، في مكان شرق مدينة السويداء. وأخبرهم أن الفلاحين قادرون على اقتلاعهم تماماً، ونصحهم بالذهاب إلى قلعة المزرعة، حيث تقيم بها حامية عثمانية، ومنها إلى دمشق. ففاوضوا الوالي العثماني هناك لإعادتهم إلى مشيختهم، والذي بدوره وضع عليهم شروطاً مقابل ذلك فقبلوا بها. فجاءت حملة ضخمة جداً بقيادة ممدوح باشا الأطرش في شهر أيار من عام 1890. واجهت الفلاحين غرب مدينة السويداء، فيما نعرفه اليوم بمنطقة الشقراوية. وكادت الحملة حينها أن تهزم بسبب تمترس الفلاحين. لكن قائد الحملة تظاهر بالهزيمة وانسحب غرباً، وانطلت الحيلة على الفلاحين وخرجوا يلاحقونه. وبذلك وجهت الحملة لهم ضربة قوية، فقتلت منهم نحو 400 فلاح، ودخلت على أثرها القوات العثمانية على جثث الفلاحين، إلى مدينة السويداء لأول مرة.

العثمانيون في الجبل

بدأ العثمانيون عقب تلك الحادثة ببناء قلعة السويداء ونصب المدافع. وتمت إعادة المشيخة لآل الأطرش، على أن يدفعوا دية القتلى من مؤيديهم مثل بيت أبو عسلي. وأن يتنازل مشايخ آل الأطرش عن نصف أراضيهم للفلاحين، وأن يدفعوا الضرائب بشكل منتظم.

وكلف العثمانيون ابراهيم بن اسماعيل الأطرش المقيم في مدينة السويداء، بوظيفة قائم مقام أطلق عليه حينها لقب بيك حتى عام 1893. ثم ذهب إلى اسطنبول للحصول على لقب باشا، وكي يشكل قوة عسكرية من الدروز يكون على رأسها. لكن السلطة العثمانية رفضت ذلك، وتوفي ابراهيم في ذات العام على إثر نزاع مسلح بينه وبين شقيقه شبلي المقيم في عرى.

وقد كان شبلي يرى بنفسه الجدارة بأن يكون شيخ مشايخ الجبل ويسكن دار السويداء، ولم يكن ينقصه الدهاء والذكاء. فقد وقف إلى جانب الثورة العامية في بدايتها، عله يصبح شيخ مشايخ الجبل. وتترك له أراضيه، ويحصل على ثروة قريبه شيخ عرمان ابراهيم نجم الأطرش، الذي كان غنياً جداً، بسبب الإتاوات التي يفرضها على الأنعام التي ترد نبع حبكي. لكن عندما علم أنهم يريدون إلغاء المشيخة انقلب عليهم واصطف إلى جانب أشقائه. 

توزيع الألقاب

بالفعل كلف الأتراك شبلي بمنصب قائم مقام بعد مقتل شقيقه ابراهيم لسنة واحدة، ولم يطلق عليه سوى لقب بيك. وحاول بحسب قراءة الواقع الداخلي، أن يمسك العصا من الوسط بين السكان وبين السلطة العثمانية، مما أثار غضب العثمانيين الذين قاموا بعزله ونفيه. وقد توفي عام 1904، وعقبه بقي شقيقه يحيى يحمل لقب شيخ المشايخ حتى وفاته عام 1914.

وفي الحرب العالمية الأولى خشيت السلطنة العثمانية من قيام ثورة من حوران عليها خلال الحرب.  فمنح الوالي جمال باشا السفاح عدداً محدوداً من الشخصيات في الجبل لقب باشا، وكان من بينهم سلطان الأطرش. وهو الوحيد حينها الذي رفض اللقب وعلق وسام الباشوية برقبة الكلب، ومنح البدلة لأحد أقاربه، وأعطى المال لسائس خيله.

أما باشوية الحلبي، فقد كان محمد عز الدين الحلبي ضابطاً في الجيش العثماني، ووصل ضمن صفوفه إلى لقب باشا، وهو لقب عسكري، ولم يتخل عن الأتراك حتى رحلوا من المنطقة. أما فضل الله هنيدي، فقد نال لقب باشا من قبل الأمير فيصل عام 1920.

والدولة العثمانية لم تكتف باسترضاء الجبل بالألقاب، فقد زار جمال باشا قرى الجبل، وشجعه على ذلك شكيب أرسلان. ليشاركوا في جيشه للذهاب إلى قناة السويس، لكنه فشل في إقناعهم، وكان قد سمح لأهل الجبل بعدم تسليم القمح للسلطات العثمانية وحرية بيعها. مما جعل محمد كرد علي يقول “لولا قمح الجبل لجاعت دمشق”. وهناك اعتقاد بأنه لولا هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى لكانوا هدموا الجبل انتقاماً منه.

الفرنسيون ولقب الأمير

جاء الفرنسيون بعد العثمانيين، وقد فوّض عدد من مشايخ الجبل الزمنيين الشيخ محمود أبو فخر، بتوقيع اتفاقية مع الفرنسيين تنص على استقلال الجبل، وأطلق عليها اتفاقية “دكي-أبو فخر” عام 1921. ويبدو أن الفرنسيين وقتها كانوا يريدون استقلالاً شكلياً للجبل وسيطرةً فعليةً عليه. فخطر الانكليز كان يلوح بالأفق، وهم الطامعون بحوران كي تتصل فلسطين مع العراق. فأصرّ الفرنسيون على تشكيل دويلة في الجبل، ووضع رئيس شكلي لها، ضمن العقلية العشائرية. وكان الخيار أن ينال هذا المنصب أحد أبناء آل الأطرش. لكنه كان بحاجة لأن يملك لقباً أكبر من لقب باشا، الذي كان يحمله عدة أشخاص. فأصدر المندوب السامي الفرنسي مرسوماً عام 1922 أطلق بموجبه على سليم محمود شبلي الأطرش من دار عرى لقب أمير. والفرنسيون يدركون أنهم بهذا اللقب سيثيرون ضغائن المتطلعين إلى السلطة. مما سيخلق الصراع بين دار عرى ودار السويداء، وحسب الرواية فإن سليم مات مسموماً بسبب ذلك.

كما كانت لديهم تخوفاتهم من دار القريا. ففي زمن الثورة العربية الكبرى، وانقسام الطرشان كان سلطان الأطرش وحده من الطرشان من وقف ضد العثمانيين. في حين وقف سليم الأطرش في عرى وعبد الغفار الأطرش والد عبدالله الأطرش وجد حسن الأطرش في السويداء، ومحمد الأطرش في صلخد، جميعاً مع الأتراك ضد الشريف حسين. وهناك رسائل أرسلها سليم الأطرش هدد بها سلطان الأطرش بسبب انحيازه لطرف الشريف حسين. كما هدد جمال باشا السفاح سلطان الأطرش وحمد البربور، لتواصلهم مع قادة الثورة العربية.

وبعد مقتل سليم، استلم الإمارة محمود بن شبلي الذي تم قتله في ظروف غامضة. وبعده حمد بن شبلي الذي عزله سلطان الأطرش من الإمارة بحضور مجموعة من الوجهاء، وقادة الثورة السورية الكبرى. على خلفية مهادنته حملة الجنرال اندريا الفرنسي، بحجة عدم تدمير عرى، والتي جاءت من الجنوب لتحتل السويداء. ثم قتل حمد بن شبلي بعد ذلك، واستلم حسن الأطرش الإمارة بعده وهو ابن يحيى. وبعد أن مات استلم ابنه يحيى، ومن بعده سليم ومن ثم شبلي وبعده شقيقه جهاد، ومن ثم جاء حالياً لؤي بن شبلي.

يشار إلى أن فرنسا منحت دار عامر في شهبا لقب أمير، فقد كان وهبي عامر مع الثورة العامية ضد الطرشان، وكان لديه طموح أن يصبح شيخ المشايخ. لكن استقواء الطرشان بالأتراك جعله في المرتبة الثانية بعدهم، فعزز الفرنسيون هذا الصراع بمرسوم.

مشيخة العقل

بالنسبة لمشيخة العقل فهي مسألة أخرى، فقد كان المجتمع يحمل عقيدةً دينيةً، ولهذه العقيدة طقوس يجب القيام بها في كثير من أمور الحياة كالزواج والموت. مما جعل قلة من المتعلمين يستطيعون القيام بهذه الأعمال، فنالوا الاحترام والتقدير من المجتمع ولم يكن في الجبل بعد ما يسمى مشيخة عقل. وفي القرن التاسع عشر أصبح تقريباً في كل بلدة إمام يقوم بالطقوس الدينية. وحينها كان هناك رجل دين يدعى إبراهيم الهجري طيب الذكر ومتعلماً ومثقفاً، وصاحب أسفار ومعارف. وكان يقيم في السويداء ولديه نزوع ديني، ومن ثم انتقل إلى بلدة قنوات، وكان يستقطب الناس بورعه.

كان عدد سكان الجبل في عام 1840، وهي سنة وفاته، يقدر ببضعة آلاف. وقد زادت حروب اللجاة من مكانته في عامي 1837–1838، عندما طوق جيش ابراهيم باشا المنطقة، كي يفرض على الجبل نزع السلاح وتجنيد الشباب. فكان للشيخ رأي سديد يقدمه إلى مجلس كبار المشايخ المكون من زعامات زمنية. يرأسه يحيى الحمدان ويضم قاسم أبو فخر وقاسم القلعاني، إضافة إلى بعض الشخصيات الأخرى. 

ومات إبراهيم ولم يكن يحمل لقب شيخ عقل. ومن بعده برز ابنه الوحيد حسين، الذي استفاد من علاقات ومكانة والده، ودوره كمقاتل في حروب اللجاة، ليحتل مكانة والده.

 وقبل دخول الأتراك إلى الجبل عسكرياً بشكل فعلي عام 1890، قاموا بإنشاء تنظيم إداري عام 1868، حيث سموا قائم مقام عثماني. وكان يرد اسم حسين مرةً واسم ابنه حسن مرةً أخرى، تحت تسمية الرئيس الروحي، حتى وفاته عام 1880. وحافظ بعده ابنه حسن على ذات المنصب، حيث كانت هذه التسمية معتمدة لدى العثمانيين ليتم تمثيل الطوائف الدينية. وعقب سنوات من تشكيل القائم مقامية، ورد اسم أبو علي قسام الحناوي بعد اسم الهجري في المجلس. وبعد العامية عام 1893، لم يعد هناك قائم مقامية من العثمانيين، وأصبح المشايخ يوقعون بعض الأوراق مثل الوصية. بالتوافق مع السلطات والمجتمع بالترتيب “الهجري ثم الحناوي ومن ثم جربوع”. لكن كانت هناك جهات ترغب بزيادة الشقاق، فجاءت لتقول على غرار مشيخة العقل في لبنان، يجب أن يكون في الجبل مشيخة عقل أيضاً. مما جعل هذا اللقب يتم يتداوله بذات الترتيب “الهجري فالحناوي فجربوع”.

المصدر: القوى المؤثرة في المنطقة الجنوبية السورية ودورها في السلم الأهلي (ديناميكياتها وأدواتها)

فريق التحرير