مازلنا نتنازع في الجمهورية السورية عقب نحو 100 عام من ولادتها ككيان سياسي في منطقة الشرق الأوسط، حول عصب قيام الدولة، والتفاف المجتمع حولها، محمّلين مشاريع سياسية واقتصادية واجتماعية. فيوم ولدت بتحريض العصب القومي، كان نظام المِلل العثماني قد دق إسفين تسييس الدين في مشروع الدولة، الذي لم يتم إنجازه إلى اليوم رغم تقلب السلطات طوال عقود.
ومع تصدع قشرة الاستقرار التي عملت عليها السلطة منذ سبعينيات القرن الماضي، ماتزال تتفاعل تحتها صراعات البحث عن عصب يشد الدولة بأبعادها، لتعيدنا عطالة القوى السياسية التقليدية إلى المربع الأول، فتجتر مشروع الدولة القومي أو المشروع الديني _الذين ينقبان مظلوميات تاريخية_ أو حتى الليبرالي الذي يتشبه بالغرب هروباً من المشروعين الأول والثاني. وهذا الفشل في بناء الدولة دفع القوى للتقهقر إلى هوياتها الأولى، ورسم الوطن على مقاسات الأرض والتاريخ والرموز والاقتصاد والمشتركات المنتجة لرؤيتهم للمستقبل، أو أقله الحماية والتعبير عن الوجود، عبر دويلات مناطقية.
وللبحث عن إجابة عن سؤال مفاده ما هي العصبية التي يمكن أن نبني عليها الجمهورية اليوم؟ علينا أن نعيد قراءة سردية مخاض ولادة سوريا ككيان سياسي وعلاقته بالمجتمع.
مخاض عسر
ففي نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، كانت السلطنة العثمانية تتقهقر وتخسر مناطق نفوذها، في ظل عجزها عن التقاط التغيرات الدولية، وخاصة نتائج الثورة الصناعية وانعكاساتها على المجتمع من مسائل مثل الديمقراطية والحريات والتمثيل السياسي وغيرها. وسادت قناعات بأن السلطان عبد الحميد ليس هو صاحب القرار، وأن في السلطنة مراكز قوى متعددة، حتى أن أبسط سكان السلطنة راح يعتقد أن من حوله يتلاعبون به. في الوقت الذي كانت جماعة الاتحاد والترقي تزداد قوة، إلى أن أجبرت السلطان على تنفيذ الدستور. وقد كانت جماعة ذات نزعة قومية تركية، متأثرة بالنزعات الأوروبية لبناء الدول على أساس عرقي، مبتعدةً عن العصبية الإسلامية التي ساهمت بقبول حكمهم من قبل العرب لقرون، بالوقت الذي ذهبت به جماعة الاتحاد إلى تعزيز سيطرة المركز على الأطراف، مترافقة بما عرف بالتتريك.
ولم يكن العرب بعيدين عن الفكر القومي، الذي حمله المتنورون المتعلمون القادمون من أوروبا ومصر للمنطقة، والذين راحوا يفكرون بصيغةٍ جديدة للعيش تحت المظلة العثمانية، تضمن مشاركتهم في الحكم، ولا تعرضهم للخضوع للسلطة الغربية. حيث كان العامل الديني ما يزال يلعب دور الرابط بالسلطنة، وقد يكون حزب اللامركزية الإدارية العثماني الذي تشكل في مصر من عدد من أبناء بلاد الشام أو سوريا الكبرى، من أوائل الحركات السياسية المطالبة بالتشاركية على أساس عرقي. وقد رأى أن الرجل المريض المستباح من عدة دول استعمارية، والغارق في فساده والمنهك من مؤامراته الداخلية، والمتغطرس في اضطهاد العرب، لا بد أن يجنح للمطالبة بحكم ذاتي، عله ينقذون ما يمكن إنقاذه. لكن تلك الدعوة استفزت العثمانيين، فأوغلوا بالعنف والقمع، وشنوا حملات واسعة لوأد الحزب ومن تعاطف معه، وعلق منهم العشرات على المشانق، ليتحولوا إلى وقود تغيير المنطقة ولو بعد حين.
الاستقلال وربطه بالغرب
وكان الحزب قد شكل أفرعاً له في العديد من المناطق السورية، وتوسعت حاضنته المؤمنة بضرورة التخلص من العثمانيين وظلمهم، وقبيل الحرب العالمية الأولى تواصلت معهم بريطانيا لتجس موقف الحزب والمتنورين في حال عدم وقوف السلطنة إلى جانب الحلفاء، فأعربوا عن رغبتهم بالاستقلال واستعدادهم لإعلان الثورة على العثمانيين في حال ضمان بريطانيا استقلال العرب، وانتشر خبر دعم بريطانيا بين العرب في المنطقة، وراحت تترسخ تلك الأفكار في الحاضنة المجتمعية شيئاً فشيئاً، ورغم عدم وفاء بريطانيا بوعودها وانقطاع تواصلها مع الحزب إلا أنه تابع عمله.
ويبدو أن البريطانيين كانوا يتواصلون بذات الوقت مع الشريف حسين والي الحجاز، وهو شخصية قيادية ببعدٍ دينيًّ، إذ يقال إنه من نسل الإمام علي بن أبي طالب، وبالتالي يمكن أن يجذب التيار الديني العربي المناصر للعثمانيين على أساس ديني، وبعدٍ اجتماعي وسياسي. وهذا ما يجعله شخصيةً مؤثرة ولها مشروعية أكبر من المتنورين العرب والطامحين لإقامة دولة عربية حديثة. بالمقابل هو شخص لديه مظلومية بسبب الأتراك، وأخرى تاريخية تتعلق بعدم استحواذ سلالته على الخلافة الإسلامية. ما يجعله شخصيةً طامحة لتسيد العرب، الأمر الذي لا يمكن أن يتم دون دعم البريطانيين السخي. وبالفعل أعلن الثورة العربية واستقطب المتنورين العرب وأبناء المجتمع الضائقين ذرعاً بالبطش العثماني، الذي حاول التخلص من الحسين عقب تبنيه مطالب الإصلاحيين العرب.
مصالح
واشتعلت الحرب العالمية الثانية عام 1914، بين الحلفاء فرنسا وبريطانيا وروسيا من جهة، مقابل ألمانيا والنمسا والمجر من جهة أخرى. وبالرغم من أن مصلحة السلطنة كانت مع الحلفاء، إلا أن مطامع الروس في الممرات المائية العثمانية إلى المياه الدافئة، دفعت “الرجل المريض” الذي سبق أن قضمت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا قطعاً من جسده، للانحياز إلى ألمانيا. وجاءت اتفاقية القسطنطينية 1915 بين فرنسا وبريطانيا وروسيا، لتقر للأخيرة مصالحاً في المعابر المائية، وتدفع بالبريطانيين والفرنسيين للتفكير بمصالحها واقتسام تركة السلطنة.
وشكلت بريطانيا في نيسان 1915 لجنةً لتحدد مصالحها في المنطقة العربية، تحضيراً لدخول أي مفاوضات مع الفرنسيين عقب أن تحط الحرب أوزارها، بحسب وثائقي بعنوان خطوط على الرمل…مئة عام على سايكس-بيكو. ولم يكن يخفى على أحد أن فرنسا كانت لديها مطامع في سوريا الكبرى، عبر سرديات تاريخية تعود إلى الحروب الصليبية، وذريعة حماية المسيحيين، إضافة إلى وجود علاقات مع قوى وعمليات تبشيرية أسست لحاضنة متقبله أقله. وساهم في رسم المصالح البريطانية رؤيتان رئيسيتان أولهما الإدارة البريطانية في الهند، والثانية هي الإدارة البريطانية في مصر. وكانت الأولى ترنو إلى استكمال سيطرتها على الخليج العربي ومنطقة البصرة وبغداد وكركوك مروراً بجزيرة عبدان وصولاً إلى حقول النفط في فارس. وخاصةً أن النفط تحول إلى هدف استراتيجي عقب تحويل اعتماد أسطول الإمبراطورية البريطانية من الفحم إلى النفط كوقود.
الحواضن
وضمت تلك اللجنة مارك سايكس أقل أعضائها رتبة وأصغرهم عمراً، وكان حينها مساعداً لوزير الدولة لشؤون الحرب هربرت كيتشنر لينوب عنه في المشاركة باللجنة. وقد خرج على اللجنة برؤية جديدة تقوم على اقتسام المنطقة العربية، عبر خلق حزام من الأقطار تحكمها بريطانيا، وتمتد من سواحل البحر المتوسط إلى الخليج العربي على تخوم بلاد فارس. الهدف منها إغلاق المنطقة بوجه أي قوى للوصول إلى البحر الأحمر والخليج العربي، وفتح الطريق بين مستعمراتها في الهند والبحر المتوسط. وحتى أنهم كانوا يفكرون بمد سكة حديد بين المنطقتين، وحماية مصالح بريطانيا في قناة السويس. إلا أن اقتراحه لم يجد قبولاً لدى اللجنة، التي رفعت عدة اقتراحات للحكومة، أما سايكس فذهب في جولة إلى المنطقة العربية، وعاد أكثر إصراراً على مشروعه، الأمر الذي وجد اهتماماً كبيراً من الحكومة البريطانية لاحقاً.
والتقت لجنة حكومية على رأسها رئيس الوزراء البريطاني حينها مع سايكس، لاعتقادها أن الأخير لديه معرفةٌ عميقة بالمسألة العربية جراء تردده على المنطقة، وسألته فيما إذا كان ولاء سكان المنطقة لهم أم للفرنسيين. وكان رأي الضابط الشاب أن كل العرب مع بريطانيا، ولكنهم ليسوا بالضبط ضد فرنسا، حيث أنهم يخشون نهجها الاستعماري وأن تنهكهم اقتصادياً. وسألوا عن توجهات المسيحيين في المنطقة، فأعرب أن المسيحيين يتشابهون مع العرب في مخاوفهم، رابطاً ذلك بوجود حنين فرنسي للحقبة الصليبية. وتحدث عن مخاوف فرنسية من قيام دولة عربية، قد تقلب عليهم مستعمراتهم في المغرب العربي. ولذلك يرغب القوميون الفرنسيون بالسيطرة على مناطق سوريا وفلسطين وشمال بلاد الرافدين. واقترح أن يتم العمل بشكل دبلوماسي للوصول إلى تسوية مع الفرنسيين حول مناطق السيطرة في المشرق العربي، وكرر رسم الخط الواصل بين ميناء حيفا وكركوك، التي كانت تشير التقارير إلى وجود نفط فيها، مؤكداً على ضرورة الفصل بين حليفهم الشريف حسين وبين الفرنسيين.
خطوط التقسيم
هكذا وضع أول خط لتقسيم المنطقة العربية على خارطة صماء، لا تظهر بها سوى بعض التضاريس وأسماء المناطق. وبالوقت الذي طالب شريف مكة بتحديد حدود الدولة العربية وتضم بلاد الشام وبلاد الرافدين والجزيرة العربية، رفض البريطانيون تقديم وعود بإقامة دولة عربية تضم جميع تلك المناطق، بحسب رسائل الحسين-مكماهون. ليعود ويجلس سايكس وجورج بيكو الفرنسي، في غرفة مغلقة وأمامهم خريطة المنطقة، يتباحثون في اقتسامها. وقبل البريطانيون التنازل عن شمال غرب سوريا، وكلهم ظن أن الروس سيكونون في منطقة الأناضول بعد الحرب، حيث لم يكونوا يرغبون بمجاورتهم، ما يجعل الفرنسيين يشكلون منطقة عازلة حيث راحت ترسم الخطوط الأولى لما سيعرف بالجمهورية السورية فيما بعد.
مفاهيم دستورية ونبذة عن تاريخ الدساتير السورية
ولكنهم أصروا على الخط بين حيفا وكركوك، ما أنتج توافقاً على منطقتي نفوذ أساسيتين لكلا الدولتين، وتم اقتسام ما بينهما بما عرف منطقة (أ) ذات نفوذ فرنسي ومنطقة (ب) مع نفوذ بريطاني، على أن يمنح سكان كل منهما بعض الصلاحيات. وكان التفاوض حول فلسطين التي ذهبوا لتحويلها الى منطقة دولية، ما أنتج خريطة تقسيمية للمنطقة.
1خريطة الشرق الأوسط بحسب اتفاق سايكس-بيكو عام 1915 |
وسرعان ما جاء مؤتمر سان ريمو عام 1920، ليضع خريطة انتداب كل من بريطانيا وفرنسا على المنطقة بحدود شبه متطابقة مع الحدود الحالية لدول الشرق الأوسط. ضاربةً بعرض الحائط كل الوعود المقدمة للعرب، ومعطلةً المؤتمر السوري العام، أول سلطة تشريعية في الوطن العربي وأول برلمان منتخب في سوريا، تم إنشاؤه في عهد الأمير فيصل بن الحسين واستمر بالعمل من 3 حزيران 1919 ولغاية 19 تموز 1920.
2خريطة مؤتمر سان ريمو 1920 |
ما منحه الغرب أخذه
ولم تكن خطوط سايكس-بيكو، وسان ريمو، الوحيدة المسؤولة عن تقسيم المنطقة، بل ساهم بها قبول أبناء الشريف حسين _فيصل وعبد الله_ الطامحين للسلطة، بتثبيت هذا التقسيم، ضاربا مقررات المؤتمر السوري العام الذي رسم دولته على مقاس سوريا الطبيعية، وقبول فيصل الخروج منها، أو بالأصح قبل أن يطرد منها على يد الفرنسيين، بالرغم من امتلاكه خيار البقاء والمقاومة.
وحينها هبّ سلطان باشا الأطرش مع فرسانه لنجدة يوسف العظمة في معركة ميسلون، 24 تموز 1920، فوصلوا إلى بلدة براق، إلى الجنوب من دمشق، ولكن المعركة كانت قد حُسِمَت سريعاً، فقال عندئذٍ، خسارة معركة لا تعني الاستسلام للمحتلّين. ولذا، فقد أرسل رسولاً خاصاً، رفيقه حمد البربور إلى الملك فيصل ليقنعه بالمجيء إلى جبل العرب وإقامة الدولة العربية في السويداء والاستمرار بمقاومة الاحتلال الفرنسي تحت راية الشرعيّة الوطنية، فلحق به إلى بصرى الشام فالقدس ثم حيفا. إلا أن الملك فيصل رأى أن الفرصة قد فاتت بعد أن صعد إلى ظهر الطرّاد البريطاني في حيفا إلى منفاه، بحسب مقال (ريم الأطرش حفيدة سلطان) بعنوان (سلطان باشا الأطرش وأدهم خنجر وغدر فرنسا)، وهنا سقطت الملكية إذانا بولادة الجمهورية السورية.
ومن ثم تم تنصيب فيصل من قبل البريطانيين على ما سيعرف بالعراق، محاولين امتصاص غضب أهل بلاد الرافدين على مشروع الانتداب والتنصل من الوعود بإقامة دولة عربية. في حين قبل عبدالله بإمارة شرق الأردن، والتي تحولت لما يعرف اليوم بالمملكة الأردنية الهاشمية، عقب طردهم من الحجاز على يد السعوديين، المدعومين من البريطانيين أيضاً، على خلفية رفض الشريف حسين التصديق على معاهدة فرساي (1919)، رافضاً الانتداب على سوريا وفلسطين والعراق من قبل فرنسا وبريطانيا، والإقرار بوعد بلفور في إقامة دولة صهيونية في فلسطين، ليعيش في منفاه في قبرص حتى عام 1930، قبل أن يعود ليعيش مع ابنه في شرق الأردن إلى نهاية حياته ويدفن عقبها في القدس.
الجمهورية ودمج العصبيات
تلك الخطوط التي تم رسمها على خرائط صماء، لم تراع الواقع الديمغرافي على الأرض. فراحت تمزق مجتمعات المنطقة بحدود لا تشبههم ولا تشبه تاريخهم ولا حتى مصالحهم الاقتصادية، في وقت كان يسود على المجتمع توجهان رئيسيان. أحدهما الفكر الشيوعي الماركسي، ذو البعد الأممي والمرتكز على الاشتراكية ورأسمالية الدولة وعلمانيتها، والآخر قائم على الفكر القومي المستورد من الغرب وخاصة فرنسا، والمستند إلى فكرة الأمة الواحدة والعرق الواحد واللغة الواحدة، التي يشد من أزرها عصب إسلامي واضح.
وكثر التنظير بالاندماج ما بين العروبة والإسلام، وهذا ما شكل أحد أسباب الشرخ ما بين السلطنة العثمانية والعرب، ومحرك ثورات الأخير، ومع تقاسم المنطقة بين البريطانيين، السباقين على إنشاء تحالفات عميقة مع السنة في المنطقة، وذراع سطوتها من الجزيرة العربية إلى العراق وبلاد الشام، والفرنسيين الذين كانوا يتلمسون خطر هذا التحالف. ودخلت بجدل حول شكل إدارة المنطقة وانتدابها، في ظل وجود تنوع كبير من حيث الأعراق والطوائف، يتناقض كل منها مع فكرة الأمة التي تتبناها، وبين مصالحها الاقتصادية التي تقتضي أن تكون المنطقة سوقاً واحداً متكاملاً.
بالرغم من انتشار وعي قومي عربي دافعه العداء للعثمانيين. وفيما بعد جاء الانتداب الفرنسي، ومن بعده الكيان الصهيوني، ليحافظ عليه رغم التناقضات الكبيرة، حيث ارتبط العصب القومي كعصب جامع ضد عدو واضح خارجي. إلّا أن تردي الأوضاع العامة وشيخوخة وعجز هذا المشروع تسبب بردة إلى الهويات البسيطة الطبيعية، بانتظار مشروع يمتلك برنامج عمل قابلاً للعمل عليه، يشكل قاطرة جامعة لمختلف مكونات سوريا محققاً معايير الوطن والدولة التي ينشدها الإنسان في المنطقة.
غياب الإرادة
فلم تكن ولادة دول المنطقة، والتي نعرفها اليوم، والجمهورية السورية من بينها، نتيجة إرادة سكانها الحرة، فغالباً كان محرك التشكل ناتجاً عن محرضٍ خارجيٍّ ومرتبطٍ برد فعل على مشروع دولي أو إقليمي. فنما العصب القومي العربي، بتحريض ودعم غربي، ليصبح الرافعة في تشكيل الدولة المأمولة، ما أسس ارتباط المشاريع الداخلية بالقوى الخارجية إلى يومنا هذا، فتنوعت التيارات السياسية التي يراهن كل منها على جهة ما، فتيار يراهن على البريطانيين وتيار على الفرنسيين وتيار على الأمريكان وأخر على الروس، واليوم يمكن أن نضيف عليهم تيار على الأتراك وتيار على الإيرانيين، وأخر على بعض دول الخليج وأخرين على الكيان الإسرائيلي، مغيبين أي فرصة لتوليد مشروع ذاتي يرتكز على إرادة المجتمع في المنطقة.
وقد كانت الطبقة السياسية التي تعامل معها الفرنسيون في المنطقة قائمة على كبار الملاك والتجار والبيروقراطيين وكبار عسكر السلطنة في المنطقة ومن يجول في فضائهم من محامين وصحفيين ومتعلمين من ذوي المنبت الإقطاعي. وفي ظل مأزق هيمنة سكان المدن والمناطق الرئيسية على سكان الريف المنهكين اقتصادياً ومسلوبي الإرادة، وبالوقت الذي كان هناك صراع بين كبار ووجهاء المناطق مع مثقفيها، القادمين محملين بأفكار الدولة والحرية والاشتراكية، تشكلت المشاريع السياسية المطروحة من العلاقة مع الدولة العثمانية إلى دول الانتداب والدولة العربية وحدودها والتحالفات مع دويلات المنطقة، إضافة إلى تيارات فكرية أخرى، لم تتفق حتى على إنتاج فكر قومي مشترك، من أمثال ذلك ما جاء به البعث والقومي الاجتماعي السوري، وهذا خلق مساحة صراع وجدل كبيرة بين تلك التيارات، ما كان يعكس توجهات فئوية في رؤية “الدولة البديلة” وتصورها، ومدى حدودها الجغرافية والبشرية وحجمها.(كتاب بلاد الشام في مطلع القرن العشرين – وجيه كوثراني ص86).
هل يعيد التاريخ نفسه؟
وفي مقاربة مع ما يحدث اليوم، وكأن التاريخ يعيد نفسه رغم وجود بعض الاختلافات في السياقات، فإننا نجد مشاريع فئوية تقوم على أنقاض فشل الفكر القومي العربي. منها المشروع الإسلامي الذي يذهب إلى إعادة إحياء الخلافة، رغم تجربتها الفاشلة، كما قدم تنظيم “داعش” نفسه، والذي حاول هدم حدود سان ريمو. وفصائل تنظيم القاعدة أمثال “جبهة النصرة” وحلفائها ضمن ما يعرف اليوم بـ “هيئة تحرير الشام”، وهذه تحاول إقامة مشروعها على مفهوم الأمة الإسلامية لكنها تقر بالحدود القائمة.
وهناك مشروع قائم على ارتدادات محاولة إحياء الفكر القومي لكن على أساس خلق دولة متعددة الأعراق والطوائف تعامل معاملة العرق مثل الدروز. ويتمثل في مشروع الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، والذي يقدم نفسه مدخلاً لحل الأزمة السورية، ويقوم على إدارات ذاتية على مقاس أقاليم أو محافظات، تتمتع بشبه استقلال عن المركز، معتمدةً المحاصصة في مراكز صنع القرار، مع غلبة الكفة إلى مجموعةٍ من القوى الكردية القابضة على الجناح العسكري المتمثل بـ”قوات سوريا الديمقراطية-قسد”.
وبالمقابل تتمسك السلطة بدمشق بمشروع القومية العربية، وفي الشمال الغربي نجد مشروع الدولة الإسلامية. وفي الجنوب ما يزال المشهد ضبابياً حيث ما تزال غالبية القوى تتجاذب ذات المشاريع، التي تصب كلها في خدمة إنتاج دولة بهويات قومية ودينية تقوم على عصبية شوفانية تعرف بنفي الأخر.
الجمهورية الجديدة
لم يحالف الحظ السكان في المنطقة بأن يتم تمثيل مصالحهم طوال قرون، فالبنية السياسية كانت انعكاساً للبنية الاجتماعية القائمة على العشائرية أو العائلية المرتبطة بالعقلية الأبوية وبرمزية الفرد الملهم المنقذ والمخلص، وإن تنوعت الألقاب، خلفها شبكاتٌ معقدة من التبعية. وهذه البنية القائمة ما قبل الدولة محركها الرئيسي يقوم على التنافسية السلبية للحصول على مكاسب ضيقة، سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، بحيث ارتبط الوضع الاقتصادي بالمكانة الاجتماعية بالنفوذ السياسي، فراحت السلطات المتعاقبة تدير هذه التشكيلة بالاسترضاء وتوزيع الامتيازات على أساس الولاء.
وخلال المئة عام الماضية كانت البنية الاجتماعية تتخلخل، وتتشوه البنية الاقتصادية، وتتهشم العصبيات السياسية، ما شوه البناء كاملاً وجعله يتصدع، في ظل ممانعة التغيير الديمقراطي السلمي لبنية المجتمع والدولة من حيث العصبية.
فإن كانت لعبة الأمم قد فرضت الحدود، وإن كان السياق التاريخي جمع كل تلك المكونات على هذه البقعة الجغرافية، وأخذت شخصيتها القانونية الدولية، وعقب تجارب قرن من الزمن، أظهرت أن الاستثمار بالمتناقضات والبناء بما يخالف السياق لن ينتج إلا مزيداً من الخراب والتشظي. هل يمكن أن نعوض الفرص الضائعة بأن نعمل على مرتكزات الشراكة الفاعلة بين مختلف المواطنين والمواطنات، على أساس ما تشكله البلاد من وحدة اقتصادية، في ظل دولة المواطنة والعدالة والقانون، التي تقف على مسافةٍ واحدة من الجميع، على قاعدة فصل الدين عن الدولة، أي دولة بهوية مؤسساتية، فننقذ أنفسنا من المحاصصة وتبعاتها، ويكون عصب الجمهورية الجديدة المواطنة التي تقر وتحترم التنوع بقدر ما تقر وتحترم التكامل وتكافؤ الفرص، والديمقراطية والتنمية المتوازنة
رواد بلان
صحافي وناشط في الشأن العام السوري
إقرأ المزيد:
السويداء… من الاستعصاء إلى الفرص المهدورة