الهوية والذات

إن معرفة الهوية تقتضي بالضرورة معرفة الذات البشرية الفردية وتقديرها وبناءها وهي تدل على مجموعة خصائص طبيعية فيزيولوجية، وخصائص نفسية مكتسبة تفرضها الظروف المحيطة بالفرد، إما أن تجعل منه فرداً فاعلاً ومتفاعلاً أو تطمس هويته وتلغي وجوده. وهذه الخصائص هي التي تعبر عن جوهر الهوية وماهيتها. فالذات الفردية الحرة والمستقلة، والمعترف بها من قبل الدولة، كفيلة في تحقيق العدالة والمساواة.

المجتمع السوري مكون من جماعات إثنية ودينية ومذهبية متعددة، ذات جذورٍ غائرةٍ في أعماق التاريخ. يجمع بينها التجاور في المكان، وتفرقها العقائد الدينية والأديديوجيات القومية والسياسية. وقد بينت الحرب الدائرة على “الساحة السورية”، منذ عقدٍ ونيّف من الزمن، هشاشة التجاور و”التعايش”، وما تضمره عبارات “جيراننا” و”أخواننا” و”أبناء الطائفة الكريمة” وغيرها، من معاني التجنب وعدم الاعتراف بجدارة الجيران والإخوان وأبناء الطائفة الكريمة، واستحقاقهم/ـن حقوقاً مدنية وسياسية متساوية.

قد يقول قائل: هناك علاقات صداقة ومصاهرة وشراكات وحسن جوار وغيرها بين مختلف الجماعات السورية، وهذا يبيّن التماسك المجتمعي، والتمسك بالهوية الوطنية. هذا صحيح، ولكن ما أسهل أن تنقلب هذه العلاقات إلى عداوة مستحكمة، لا يبرأ منها سوى قلة ممن تجاوزوا حدود الفصل بين العشائرية و”القومية” والمذهبية. وقد يكون مرد هذه السهولة انفصال الــ “أنا” الفردية والجمعية عن الــ”الآخر” واستقلال كل جماعةٍ بمثل أعلى من الماضي ومن “السلف الصالح”. لذلك، لم يكن للهوية السورية سوى معنى قانوني: بطاقةٌ شخصية وجواز سفر، والأخير ممنوعٌ على مئات الآلاف. ناهيك عن المعتقلين والمغيبين قسراً، الذين غالباً ما يحرمون من حقوقهم المدنية والسياسية بأحكامٍ تعسفية.

 كيف نعيد للهوية وطنيتها

سؤال لا يحتمل إجابة تنظيرية بل عملية وفعلية. وهنا على هذه الأرض المحروقة وإنسانها المهدور، علينا أن نقتنع أولاً بأننا ننتمي إلى إنسانيتنا، والانتماء إلى الإنسانية يعني الإنسان قبل كل شيء. “الأنا” و”الآخر” المختلف والأخرى المختلفة بعيداً عن جميع محمولاته من دينٍ أو مذهبٍ أو قوميةٍ أو سياسة. فالهوية الوطنية السورية تكون ضمن معطيات إنسانية غير طبقية وغير دينية وغير سياسية. تقوم على مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات، بين جميع أفراد الشعب، دونما تمييزٍ بين امرأةٍ ورجل. والتشاركيةِ في الحياة السياسية، وحرية التفكير والتعبير، أي على مبدأ المواطنة الكاملة في الانتماء إلى الفضاء العام/ الفضاء الانساني وفقط.

مقولة الهوية الوطنية، تنفتح آفاقاً واسعة، وآمالاً كبيرة في نفس الفرد السوري الفاقد لهويته الوطنية، والتي يجب أن تكون خياره في الانتماء وتحقيق ذاته الحرة والمستقلة، في مجتمع هو فضاء من الحرية ودولة عادلة لجميع المواطنات والمواطنين. لكن الوضع الراهن الذي يعيشه السوريون يبعث شعوراً باليأس والإحباط لكل آماله وتصوراته في اختيار هويته الوطنية، في التفكك الاجتماعي، والذي يعتبر كل جزء منه هو المرجعية في تحقيق “هوية وطنية”، تفصلها كل جماعة على قدها ووفقاً لتصوراتها الذهنية والأيديولوجية، قومية كانت أم دينية ووفقاً لأهدافها السياسية. لذلك يتعالى الضجيج حول مشاريع التقسيم والفدرالية واللامركزية.

الهوية والمجتمع الديمقراطي

إن معرفة الهوية تقتضي بالضرورة معرفة الذات البشرية الفردية وتقديرها، وبناءها، هذه الذات التي تدل على مجموعة خصائص طبيعية فيزيولوجية، وخصائص نفسية مكتسبة تفرضها الظروف المحيطة بالفرد، إما أن تجعل منه فرداً فاعلاً ومتفاعلاً أو تطمس هويته وتلغي وجوده. وهذه الخصائص هي التي تعبر عن جوهر الهوية وماهيتها. فالذات الفردية الحرة والمستقلة، والمعترف بها من قبل الدولة، كفيلة في تحقيق العدالة والمساواة. لآنها قادرةٌ على تأسيس مجتمعٍ ديمقراطي حرٍّ ومستقل، ذي روابط متماسكة ومتكاملة. فالعلاقة بين الذات والهوية علاقة تبادلية، تتحقق كلاً منها في وجود الأخرى.

الفكر الحر، يعبر عن ذات حرة ووجود مستقل. “أنا أفكر إذاً أنا موجود” تدلنا مقولة “ديكارت” هذه على ارتباط الذات بالوجود، ويمكن أن نستخلص منها أهمية تطابق الهوية والذات.

اعتبار الهويات الحصرية، الدينية والمذهبية والاثنية الحزبية العقائدية والجهوية، هي هويات ضيقة ومغلقة، متنازعة ومتنافرة، تؤدي إلى تفكيك الروابط بين أفراد المجتمع، الذي يفترض أن يكون مبنيا على الثقة والتعاون والمحبة وعدم التمييز وقبول الآخر. وتمنع الانفتاح على الهوية الإنسانية التي هي المعيار الاساسي للهوية الوطنية، وتعمق الشعور بالاغتراب، وعدم الثقة بالآخر، طالما هي هويات حصرية غير قادرة على بناء هوية وطنية متماسكة.

قالت السيدة “س” من حمص قبيل حدوث الهجرة الداخلية: حين تفاقمت الأزمة السورية اضطررنا إلى ترك بيئتنا وممتلكاتنا أنا وعائلتي. ونزحنا إلى السويداء، بقينا طيلة الطريق _التي لم تكن قصيرة_ نعيش في صراع مع الذات، ونطرح على أنفسنا مجموعة من الأسئلة:

إلى أي مجتمع نحن ذاهبون؟ مع أي جماعة سنلتقي؟ كيف سنتعامل من قِبل البيئة المضيفة؟ إلى أن وصلنا، وبدأت المنظمات المدنية الخاصة بالمنطقة المقصودة أولاً تتعامل معنا بإنسانية. من ثم بدأ الانفتاح المتبادل بيننا وبين أفراد المجتمع. فنشأت بيننا ثقة متبادلة، وعلاقات شخصية، ومن ثم علاقات عامة، من خلال فتح مشروع عمل مشترك. أما الجهة المقابلة (المضيفة) لم تكن أقل توجساً واضطراباً منا، فالقادم مجهول، غريب، ومختلف.

وتزاحمت الأسئلة في رؤوس الناس هل هو متعصب.. هل هو إرهابي.. هذا يدل على إطلاق الأحكام المسبقة من “الأنا” على “الهو” والرغبة الداخلية في أن تبقى “الأنا أنا و”الآخر” هو “الآخر”.

تشكيل الهوية

وهذا أيضاً يأخذنا باتجاه مفهوم سياسات الهوية الشائع في القرن الماضي، وصار يمتد حتى وقتنا الحالي. وهو مجموعة من الحجج السياسية والدينية التي ترتكز على مصالح شخصية خاصة، وتخص جماعة محددة بذاتها. وعلى وسائل يتم من خلالها تشكيل سياسات الشعب ومظاهر هويتهم، عن طريق الدين أو الإثنية أو الجنس أو الطبقة. بعيداً عن المصلحة العامة التي تستوجب التفاعل الكلي لجميع أفراد المجتمع في كافة المجالات الحياتية. وعلى وجه الخصوص التمييز الجنسي في المناهج التعليمية، (رباب تطبخ.. باسم يقرأ، تخصيص مدارس خاصة بالإناث وأخرى خاصة بالذكور). والديني (تدريس التربية الدينية في المدارس السورية منذ الصفوف الأولى، وإنشاء معاهد دينية خاصة. والثقافي (حرمان الأقليات الإثنية من دراسة لغاتها).

التخلي عن الهوية يعني الانبطاح أمام التقسيم المجتمعي وأمام التكفير والتخوين، وإلغاء الفرد والحد من حريته. وبالتالي إلغاء المجتمع المتكامل والمترابط وخضوعه للتعصب والتطرف، سواء الديني أم القبلي أم السياسي. مما يعني عرقلة نشوء دولة وطنية حديثة، تكفل الحق والحرية والكرامة لجميع مواطناتها ومواطنيها على السواء، والانبطاح أمام سطوة الاستبداد وتعمق الاستغلال والفساد.

أتكلم كواحدة من أفراد المجتمع السوري الحالمين/ات بالحرية والمساواة وتحقيق العدالة. أتطلع لأن أصبح مواطنةً أتمتع بحقوقي، بعيداً عن الشعارات الطائفية المساهمة في التكتلات، وإنشاء جماعات تتسلح بالدين والرصاص معاً، وبعيداً عن عبادة الفرد وتأبيده. وأن أقوم بالتزاماتي إزاء دولة المواطنة كوني مواطنةً سوريةً لا غير. لذلك من الأجدر أن نؤمن إيماناً مطلقاً بالوجود الإنساني، وأنه أقدم ما في الوجود. وأنه في إعادة الاعتبار الكلي للإنسان تتفكك الهويات الأيديولوجية تلقائياً، وتتجدد المنظومة الفكرية والثقافية وفقاً لاستراتيجية الواقع الجديد ومعطياته. أي تتحقق العدالة المكانية المتوافقة مع العدالة الاجتماعية.

أنجيل الشاعر

اقرأ أيضاً https://shortest.link/nYCn