غير آبهين بما ضيّعوا من سنوات الدراسة.. شباب سوريون يتركون جامعاتهم للبحث عن حياة أفضل خارج البلاد
لم يعد خافياً على أحد أن الشباب السوري يطمح للبحث عن حياة أفضل خارج بلاده، بعد أن ضاقت الظروف عليهم من كل الاتجاهات. إلا أن التدقيق في قصصهم الفردية يقودنا لمعرفة تفاصيل تشرح جزءاً من معاناتهم وكفاحهم للوصول إلى طموحاتهم.
ترك جزء كبير من الشباب والشابات دراستهم في سوريا، وغادروا ليبدأوا من الصفر، غير آبهين بسنوات الدراسة التي قضوها في الجامعات أو المدارس السورية. إلا أن تدني مستوى التعليم في الجامعات، وندرة فرص العمل وتدني الأجور ومخاوف الشباب من الخدمة الإلزامية غير معروفة المصير، زادت وتيرة الهجرة خاصة للفئة الشابة.
ظروف قاهرة وأفق مسدود
يقول الشاب السوري علي حبقة إنه “اتخذ قراراً بالتخلي عن دراسته في الجامعة بعد تفكيرٍ وصبرٍ طويل. إذ وصل إلى مرحلة نفاذ الأمل بأي فائدة مما يدرسه، نظراً للشرخ الكبير بين مستوى الدراسة وقِدم المناهج، وبين متطلبات سوق العمل”.
ويشير عليّ إلى أن: “غالبية الطاقم التعليمي لم يكن متعاوناً أو متعاطفاً مع الطلّاب، رغم كل ظروفهم، ابتداءً من سنوات الحرب الأولى وكل ما عايشه الطلاب من خطر وخوف وخسائر، وصولاً إلى مراحل المأساة المادية الكبيرة. الأمر الذي خلق شعوراً سلبياً عنده، وأضعف رغبته بالاستمرار في استنزاف طاقته دون فائدة”.
“موهبتي في الرسم ساعدتني في الحصول على فرص لدخول سوق العمل”، يقول علي، إلا أنّه انتقل من رسم “البورتريه” بمبالغ زهيدة (لا تتجاوز10$ مقابل اللوحة الواحدة)، إلى العمل في مجال الرسوم المتحركة. كون غالبية الشباب السوري توجّه نحو اكتساب مهارات تساعد على العمل عن بعد، نظراً لندرة الفرص داخلياً وصعوبة الظروف.
الصعوبة الأكبر التي واجهها علي أثناء عمله على مشاريع تحريك رسوم لصالح شركات مهمة خارج سوريا، كانت وجود طرف ثالث كوسيط بينه وبين صاحب العمل الأساسي. وهذا ما كان يتسبب باستغلالٍ كبير لعموم اليد العاملة، من خلال حصولها على 10% فقط من التكلفة الحقيقية للعمل، إذ لا يتجاوز دخله في اليوم الواحد قرابة الـ4$، بحسب تعبيره.
ويضاف إلى ذلك، عدم القدرة على الوصول إلى مواد مهمة عبر الإنترنت تساعد في إنجاز العمل، لأن السوريين لا يمتلكون أية وسيلة للدفع الإلكتروني. وربّما حتى ولو امتلكوها، فإن تكاليف العيش والدخل المتدني ستقف عائقاً أمام قدرتهم على شراء ما يحتاجونه، ناهيك عن مشاكل الكهرباء والإنترنت، وفقاً لـ علي.
نجاحٌ في السفر واستقرارٌ محفوف بالقلق
بعد السفر ازدادت رغبة عليّ بإكمال دراسته، ولكن في مجال آخر مختلف عن الهندسة الميكانيكية التي ترك دراستها في جامعة دمشق. وإنما يرغب الآن بدراسة قريبة من مجال عمله في الرسم والتحريك.
وعن ظروف العمل في دولة الإمارات التي انتقل إليها، يرى الشاب السوري علي أن بيئة العمل تُقاس وفقاً للإدارات أكثر من تعلقها بالبلد، حيث هناك السيء والجيد في كل مكان. ولكن على الرغم من أن الأجنبي أو العربي المقيم في الخليج يعتبر يداً عاملةً رخيصة إلى حد ما، حسب تعبيره، إلا أنه يتقاضى أجراً جيداً قياساً بما كان يحصّله في سوريا. ويمتلك حقوقاً مصانة في القانون، ولديه الإمكانية للتطور والحصول على فرص مع شركات عالمية تلغي هذا الفارق وتوصل الشخص إلى طموحاته.
ويختتم علي حديثه لـ “أرضية مشتركة” بالتنويه إلى أنه رغم انتقاله إلى ظروف أفضل، إلا أنه لا يشعر بالأمان الوظيفي حيث يقيم ويعمل. إذ من الممكن أن يخسر وظيفته في أي وقت، وهذه سلبية كبيرة على حد تعبيره للعمل في الخليج العربي. ويؤكد أن الأمان الوحيد يأتي من قدرات الشاب/ة وثقته/ا بإمكانية الاستمرار، وهذا يتطلب وقتاً ومجهوداً كبيرين، كون ساعات العمل في هذه الدول طويلة ومرهقة والتكاليف عالية، لكنها بالمحصلة بيئةٌ مناسبة للإبداع والتطور والمستقبل.
تركت دراستها في سوريا دون تردد!
قصةٌ أخرى لشابّة كافحت في ظروف صعبة وحاولت الاستمرار، إلا أنها اختارت المغامرة مع عائلتها، عند أول فرصة سانحة للسفر.
بدأت جويل سطمه (24 عاماً) دراستها للهندسة في جامعة دمشق “الهمك” كلية الهندسة الكهربائية والميكانيكية، عام 2017. وعملت في ذات الوقت مع إحدى شركات الاتصالات، لتتمكن من إعالة نفسها وعائلتها خلال الدراسة. وتقول إنها تحملت عبء الحياة باكراً إذ توفي والدها وهي في سن الـ 13، وهي كبرى أخواتها الفتيات.
في عام 2018، وصل لمسامع جويل من أصدقائها في أربيل، العراق، أنه بالإمكان التقديم على الهجرة إلى أستراليا بطريقة نظامية. لكن بشرط السفر والبقاء لفترة في أربيل، ولم تتردد وعائلتها في اتخاذ القرار بالسفر. كما وطلبت من أخوالها مرافقتها في هذه الرحلة لتخفيف وطأة الغربة، وكان لها ذلك.
اضطرت عائلة جويل لبيع أرض كانت تمثّل كل ما تملكه ومصدر رزق أساسي لها، وكل ذلك في سبيل بدء حياة جديدة في مكان آخر.
مخاطرة وضغوطات من المحيط
تقول جويل: “كان قراراً صعباً للغاية أن أترك دراستي في الجامعة، وكذلك أخواتي تركن دراستهن في المدارس. لقد تعرضنا لضغوطات كبيرة من قبل المحيط. كانوا يقولون لنا إننا سنفشل في سفرنا بعد ترك الدراسة، ولكن لم يكن هناك مجال للتراجع”.
وتضيف: “أربيل كانت مرحلة جميلة وصعبة في ذات الوقت، لم نشعر بالاستقرار، ولم نتمكن من دخول مدارس أو جامعات. وكانت الأيام عبارة عن انتظار ومسؤوليات وإجراءات إقامة وإيجار. قمنا بالعمل حتى تمكّنا أخيراً من الانطلاق نحو أستراليا بعد انتظار لسنتين ونصف”.
تدرس جويل الآن الهندسة المدنية في أستراليا، وتعمل بدوام جزئي، وتعتبر أنها حققت إنجازاً بوصولها مع عائلتها إلى مكان يؤمّن مقومات الحياة الكريمة، ويمكن فيه التفكير بالمستقبل.
على مر السنوات، سواء ما قبل الحرب أو بعدها، فإننا كنا نشهد نجاحاً للشباب والشابات السوريين/ات في الخارج. رغم كل ما يتلقونه من إحباط وخيبات من أحداث قاسية مرت عليهم، وليس انتهاءً بمن يقول لهم إنه من لم ينجح في بلده فلن ينجح في مكان آخر. ولطالما أثبتوا أنهم يبدعون وينجحون بمجرد إتاحة مساحة آمنة للإبداع والإنتاج والتطور، دون قيود وتضييق، ومع احترام لإنسانيتهم وطموحهم.
وهاج عزام