تتغير المفاهيم والعادات والتقاليد في المكونات والتجمعات البشرية، تبعاً للحالة الأمنية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الدينية منها، وتعتبر هذه المكونات البشرية ملامح لوجود ما سمي لاحقا بالمجتمع. حيث لا يمكن مقارنة الفرد الذي ينعم بالعيش في دولة يسود فيها الأمن، وتحظى بتشريع قانونٍ صريحٍ يحمي كافة أفراد المجتمع، وفي ظل أمنٍ اقتصادي، بعيداً عن شبح الفقر والعوز، وتحت رعاية وتكافل اجتماعيين، وحتى تحت تشريعات ومبادئ دينية متسامحة. بالفرد الذي يعيش في وطن أو دولة فقدت هذه الميزات. إذ تبدأ عرى التماسك الاجتماعي والنسيج المجتمعي بالتحلل والتفسخ، بظل نمطٍ سلوكي يجري مجرى الخلاص الفردي، بعيداً عن الخلاص الجماعي، وضمن دائرة سلوكية أساسها مصلحة الفرد الخاصة في ظل مجتمع متأزم.
تغير العادات والتقاليد
تتأرجح القيم والمفاهيم الإنسانية صعوداً وهبوطاً حسب الأنظمة السياسية والاقتصادية القائمة في بلدٍ ما. هذه النظم تنعكس على سلوك الفرد، فنجدها في النظام الاستبدادي تأخذ المنحى السلوكي السلبي، إذ يميل الفرد إلى الخلاص الفردي متجاوزاً مصلحة الجماعة، بينما نجد هذه القيم ترتفع طرداً في الأنظمة الديمقراطية كلّما تطور المجتمع.
يخضع المجتمع لمفاهيم عامة وتصورات أساسية تحدد نشاطه الاجتماعي، فالمجتمع تعريفاً هو مجموعة من الناس يقيمون على أرضٍ جغرافية واحدة تنشأ بينهم علاقات ومصالح مشتركة.
والمجتمع نسيج اجتماعي من صنع الإنسان، ويتكون من مجموعة من النّظم والقوانين التي تحدد المعايير الاجتماعية التي تترتب على أفراده. إذ يعتمد على مدى وعيهم كي يبقى متماسكاً وقوياً. وعليه لابد من قوانين وضوابط أخلاقية، قبل أن تتحول إلى قواعد قانونية في العصر الحديث أو الدولة الحديثة، وتمثل هذه القوانين الأخلاقية قاعدةً مجتمعيةً انبثقت منها قيم أساسية هي العادات والتقاليد. فأصبحت هذه الأخيرة دستوراً مجتمعياً يلجأ إليه المجتمع في حل مشكلاته، والتحاكم والتقاضي عبر العصور.
ومن الطبيعي أن تختلف هذه العادات والتقاليد من مجتمع لآخر حسب اختلاف مشارب هذه المجتمعات والإثنيات، لكنها تبقى -في المحصلة- انعكاساً للجانب الأخلاقي للمكونات الإنسانية المجتمعية. إذ تجذرت هذه المفاهيم في نفوس الأفراد، فتجلت بانصياع الفرد لهذه العادات والتقاليد كانصياعه للأوامر والنواهي الدينية، فأصبحت هذه القيم مع النظم الدينية قاعدة مجتمعية مخوّلة في الحل والربط والكسر والجبر.
ومن هنا استغلت النظم الحاكمة هذه العادات والتقاليد إضافة للتعاليم والمبادئ الدينية كمصدر أساسي للتشريع الدستوري والقانوني، وما زالت تتفاعل في نفسية الفرد حتى في عصرنا الحاضر. فأ ؤ خذت على عاتقها قدرٍاً كبيراً من الإصلاح المجتمعي خصوصاً في الدول التي حدثت فيها الحروب الأهلية أو القلاقل السياسية.
دور المجتمع المدني
وعليه كان لزاماً على نشطاء المجتمع المدني بشكلٍ خاص، والنخبة الثقافية بشكل عام أخذ دورها المجتمعي. إذ كان على هذه العادات والتقاليد أخذ دورها الإصلاحي في ظل غياب أو ضعف القانون الوضعي في الدول التي حدثت فيها الحروب الأهلية أو القلاقل السياسية والمجتمعية كما ذكرنا.
وكان لزاماً على طبقة النخبة الثقافية في المجتمع أن تفعّل وتنشِّط الصالح من هذه العادات والتقاليد لسببين اثنين:
أولهما: رفع مستوى الوعي العام لأفراد المجتمع لكونه فقد أو ضعف فيه وغاب الجانب التربوي والمعرفي والتعليمي، كما ضعف فيه القانون والتعاطي القانوني في حل المشاكل المجتمعية.
فتفعيل هذه العادات والتقاليد الإيجابية سيساعد حتماً في عبور المجتمع من الأزمات والقلاقل، حينها ستأخذ هذه العادات والتقاليد دور رجل الإطفاء مع الحذر الشديد من تنشيط العادات السيئة، كالأخذ بالثأر على سبيل المثال، أو استرداد الحق بالقوة، أو الجرائم التي تطال الشرف والقائمة تطول.
إنّ ممارسة هذه العادات والتقاليد لابد وأن تخضع لحكماء ونشطاء المجتمع كي يصار لاستثمارها على أحسن وجه.
وثانيهما: لا بد من الحذر الشديد والتنويه الى أنّ هذا الدور الإجرائي والتنفيذي للعادات والتقاليد في المجتمع لابد له أن ينحسر ويعود الى مكانه الصحيح عندما تأخذ الدولة دورها الحقيقي والفاعل، كي لا يصل المجتمع الى ازدواجية في المعايير والتقاضي، أو التعامل القانوني والمجتمعي. فالسلطة القضائية من أهم السلطات الحاملة للدولة، وهي المسؤولة والمخوّلة بفصل الحقوق بين أفراد المجتمع. لأن الجانب القضائي بحاجة أساسية للمشرع ذي الخبرة الحقيقية، وما على هذه العادات والتقاليد في هذه الحالة إلا أن تنحسر من الفضاء السياسي العام، وتقوم بالدور المناط بها اجتماعياً تاركةً الساحة للسلطة القضائية في أخذ دورها الحقيقي والفاعل في المجتمع.
“إن المقالة تعبر عن رأي الكاتب، ولا يتبنى موقع “أرضية مشتركة” أياً من الأفكار الواردة فيه”.
كمال علي جنود